ملاحظة ما قبل البدء:

و أنا أكتب في النص الذي ستقرؤه يا صديقي العربي كنتُ أشعر بالقرف و التناقض بطريقة لا يسهل عليَّ أن أصفها لكَ .. لا تسبَّ في أعماقكَ على فرحنا بورقة.. و لا تشكك بوطنيتنا من فضلك !

…….

وصلتني في ذلك المساء رسالةٌ من مريم مفادها :”سلام سنذهب للقدس ، أرسلي بياناتك ليصدر لكِ تصريح دخول”

كان قد مضى على إقامتي في القدس أكثر من سنة ، أكثر من سنة و أنا أقيم في القدس و لم أستطع الوصول خلالها إلى المسجد الأقصى المبارك ..

يبعد المسجد الأقصى المبارك عن الشقة التي أسكن فيها في أبوديس-شرق القدس ما لا يزيد عن نصف ساعة مشياً على الأقدام على فرض عدم وجود الجدار .. من شرفة غرفتي أستطيع أن أرى منطقة جبل الطور بمعالمها البارزة .. مستشفى المطلع و كنيسة الصعود الروسية ، بل إني كثيراً ما أصحو على صوت أجراس الكنيسة في الصباح ! هذا غير أن الأقصى يظهر أمامي لو سرت في الشارع أو زرت آية في شقتها أو صعدت على سطح الشقة التي أقيم فيها ..

قد تتساءل يا صديقي .. إن كان المشهد لديكِ هكذا فما الذي يمنعكِ من الوصول للأقصى إذن ؟

حسناً الأمر ليس بالسهولة التي تعتقدها أنت .. أو أي شخص بعيد عن الواقع هنا ..

أذكر أني يوم قرأت رسالة مريم .. أرسلت بياناتي دون أن أكتب اسمي!

بعد مدة من الانتظار تقارب الأسبوعين “جاءت البشرى” بأنه قد صدر لي “تصريح دخول” .. و أني سألتقي بالقدس في 11-11-2013 .. أمسكت “بالتصريح” غير مصدقة .. !

كنت سعيدةً جداً .. و لو عاد بي الزمن إلى تلك اللحظة لصفعت نفسي صفعةً تسقطني أرضاً ،لمَ تفرحين أيتها الساذجة المغفلة ؟ ألأن سلطة الاحتلال سمحت لكِ بالدخول للقدس التي هي لك؟

سألتني صديقة تركية مرة و نحن في الجامع القبلي في المسجد الأقصى المبارك :” هل ستأتين غداً لصلاة الجمعة؟”

أجبتها بالنفي .. لأن “تصريحي” لن يكون ساري المفعول بعد الثانية عشر ليلاً و بناءً عليه لن أستطيع الدخول إلى القدس .. صدمت من كلامي .. “و لكن أنت تقيمين في القدس .. كيف لا تدخلي القدس؟”

ضحكت في نفسي ضحكة تهكم و ألم .. كيف سأشرح لكِ يا صديقتي أن القدس اليوم قدسان .. واحدة داخل الجدار و أخرى خارجه، و أن المقيمين خارج الجدار بحاجة إلى “تصريح” ليدخلوا إلى القدس التي داخل الجدار! و أن بطاقة هويتي الخضراء يجب أن يلازمها “التصريح” لأدخل القدس بصورة “قانونية” وفقاً لشرائع “دولة الجوار” كما يحلو لعشاق أوسلو تسميتها .. ألا قاتل الله أوسلو و “رجالها” .. !

قلتُ لها .. “أروى أنتِ من اسنطبول، حين تذهبين لأنقرة ما الذي يلزمك؟”

قالت:”مال و سيارة و هويتي فقط!” و يقيناً لو نسيت هويتها فلن يسألها أحد بشأنها ..

“ببساطة يا أروى أنا أحتاج أكثر من المال و السيارة لأجل أن أصل القدس ، أحتاج أن أقدم اسمي و رقم هويتي لواحد من مكاتب”الارتباط المدني” قبل أسبوعين من موعد زيارتي للقدس .. و أن تدقق المخابرات الإسرائيلية بياناتي و تتأكد بأني لا أشكل خطراً على الأمن ، ثم تصدر هذه الورقة المشؤومة ، كدليل بأنه من المسموح لي دخول القدس أو أراضي فلسطين المحتلة لمدة زمنية محدودة .. تخيلي أن يلزمك أحد بمدة تواجدك في أنقرة .. متى تدخلينها و متى يجب أن تغادريها ، و تخيلي أنه لو انتهت “صلاحية التصريح” و أمسكت بي الشرطة داخل القدس أو الأراضي المحتلة عام 1948 فسوف لن أرى ما يسرني!على أقل تقدير سأبيت في السجن بضعة أيام و أدفع غرامة!”

صديقي العربي القارئ .. يوم أن صدر لي ذلك التصريح ، كنت أريد أن أذهب للقدس لأصلي في الأقصى و أشتم رائحة شوراع القدس العتيقة فقط ..!

ربما بنظر البعض هذا هدف ترفيهي ، لكن قضية التصاريح برمتها ليست ترفيها .. إنما هي إفرازٌ من الإفرازات القذرة التي أنتجتها لنا أوسلو ، ألا قاتل الله أوسلو و “رجالها” بل للدقة أعني “ذكورها” .. تسلسل الأحداث ما بعد الانتفاضة عام 2000 ، بالتحديد حينما نفذت خطة جدار الفصل العنصري أدى إلى تعزيز حضور فكرة “تصريح الدخول” في كل تفاصيل الحياة هنا !

أعرف صديقةً تعرضت لحادث أدى لإصابتها في قدمها إصابةً بالغة .. كان ذلك أيام دراستي الثانوية .. و بعد مدة من العلاج في مستشفيات الخليل كان لزاماً عليها أن تراجع في مستشفى المقاصد الإسلامية في القدس التي داخل الجدار ..

و لأن لها أخاً اعتقل إبان أحداث الانتفاضة على خلفية أعمال عسكرية في المقاومة .. و زوجها كذلك فهي من المرفوضين أمنياً بالنسبة لمخابرات الاحتلال ، و بالتالي لن يصدر لها تصريح لأغراض صحية لتكمل رحلة علاجها ..

نحن نتحدث عن أكثر من خمس سنوات و هي تعاني .. قبل شهرين أجرت عملية في قدمها .. في أحد مشافي الضفة الغربية .. لو أنها لم تكن “مرفوضةً أمنياً” لانتهت مشكلتها منذ مدة في مستشفى يبعد عن بيتها مسافة لا تزيد عن 90 دقيقة بالسيارة !

أعرف أيضاً شاباً من أقاربي كان قد قرر أن يذهب للعمل في الأراضي المحتلة عام 1948 بعد أن ضاقت الحياة في وجهه و كادت البطالة أن تقضي عليه ، و قد قارب الثلاثين دون أي إنجاز في حياته .. لا عمل .. لا بيت .. لا زواج .. لا استقرار .. لا حياة بالمختصر! لقد كان يقضي الوقت في تدخين السجائر و لعب الشدة مع أصدقائه و تصيد بعض فرص العمل ذات الأجر الزهيد .. المهم أن “القانون” لدى “دولة الجوار” لا يمنحه تصريح عمل نظراً لأنه ليس متزوجاً (ربما جيراننا يعتقدون أن الشاب عندنا قبل الزواج يكون مرفهاً لدرجة أنه ليس بحاجة للعمل-أتهكم فحسب!- ) ذهب في رحلة مخاطرة ليدخل إلى منطقة بئر السبع للعمل ، عَمِلَ هناك مدَّة ثم اكتشفت الشرطة أنه قد دخل بلا “تصريح عمل” .. ألقت القبض عليه فوراً .. و أودع السجن لمدة 3 أشهر و دفع غرامة لا أذكر كم كانت بالضبط ..

في مطلع ثمانيات القرن المنصرم كانت أمي تدرس في رام الله ، و كانت نهاية الأسبوع تذهب إلى القدس و منها تعود إلى البيت في الخليل .. لم تكن أمي تحتاج وقتها أكثر من 3 دولارات لتذهب من رام الله إلى القدس و من القدس إلى الخليل .. و تشتري وجبة غداء و كتاب للطريق!

“لا تصريح و لا تدقيق و لا ذل على المعابر أو الحواجز ” !

اليوم و بعد مقدم سلطة أوسلو “أدام الله ظلها الشريف !!” الـ3 دولارات لا تشتري لي ساندويش!و لا أستطيع بألف ضعف منها أن أدخل القدس بلا الورقة الباهتة .. إلا إن كنتُ مجنونة ..! و المليون دولار لا تفعل شيئاً أمام الذل الذي نراه و نعيشه كل يوم !

شاهدت أكثر من 100 مرة ردود أفعال الناس هنا حين تصدر لهم “تصاريح دخول ” .. شعور بالفرح و الانتصار بأنه سيسمح لهم بدخول القدس للصلاة ، أو الذهاب لحيفا للاستمتاع بالبحر .. أو زيارة يافا ذات غروب!

كيف سيكون الشعور حين نتحدث عن رجلٍ سيُسمح له بالدخول و العمل ليكسب قوت عياله و يؤمن لهم حياة كريمة .. في زمن غلاء المعيشة و طغيان المادة !

أو شعور أبٍ أو أمٍ سيدخل أخيراً برفقة ولده في رحلة علاج .. كي لا يفقده من بين يديه لأنه لا دواء له أو علاج في “دولة الضفة الشقيقة” !

ذات مرة تناولت “تصريحاً” كان قد صدر لي مرَّة و تأملت ما كُتِبَ فيه .. لم أكن مسبقاً فعلتها لأني أكره شكل الورقة حتى ! ، الصورة المرفقة توضح لكم .. شكل الورقة الباهتة التي قد تنقذ أحدهم من الموت ، من التسول .. أو من الغرق في ظلمة البطالة!

و قد تجعل أحدهم يبكي فرحاً لأنه سيدخل المسجد الأقصى المبارك لأول مرة في حياته .. مذ أبصرت عيناه النور قبل ما يزيد عن 20 عاماً !!

النقطة الثالثة أدناه ، قصة كاملة .. يتبع بشأنها !

1

2