لم يجتمع الإسلاميون يوما على استراتيجية واحدة للحركة، كما أن زمرة واسعة من الشباب الإسلامي لم يكن منتظما في خيارات أيديولوجية أو تنظيمات حركية، إلا أن وعيا جامعا كان حيا في المسكوت عنه الذي كان موضوعا للأكاديميين المهتمين بدرس الحركة الإسلامية فحسب. ولم تنبع مرارة الإطاحة بتجربة الإسلاميين في مصر من كونها هزيمة سياسية بالأساس، ولكن من كونها إعلانا عن فشل ذلك الوعي الجامع وحاجته إلى المراجعة والنقد.

تحرك الوعي الإسلامي منذ تبلوره في عصر النهضة العربية منطلقا من نزوعين أحدهما إلى الإسلام، استعادة له فيما افترض أنه تحققه الكامل أو صورته النقية، ونزوع نحوه، إلى مقاومة الغرب ونقده. تحددت خيارات الإسلاميين الثقافية بين هذين النزوعين أو المزيج بينهما عند التأزم في الاستجابة الكمية، أي المزيد من الإسلام أو المزيد من نقد الغرب.

ظهر المزيد من الإسلام نظريا في دعوات الاهتمام بالدرس الشرعي ونشره وتقديس التراث الإسلامي، وعمليا في دعوات العودة إلى شيء من الصلابة الأيديولوجية في الصراع السياسي

[1]

أو انتهاج العنف. أي أن خيارات الإسلاميين بصدد التفكير في الإسلام انحصرت في التسلف الصريح أو الضمني.

أما المزيد من نقد الغرب فقد ظهر نظريا في التوجه الثقافي نحو التضلع من الفلسفات النقدية في الحضارة الغربية، إضافة إلى أدبيات نقد الحداثة خاصة الدولة الحديثة كإحدى منتجاتها، وعمليا في التوسع في ربط الأحداث والإشكاليات الخصوصية بالرأسمالية العالمية أو النظام العالمي المهيمن ومصالحه تحت شعار ماركسي المنبت (معركة الوعي). أي أن الإسلاميين قد خضعوا إلى نوع من التمركس اللاواعي تحت ضغط نزعتهم النقدية تجاه الغرب.

اجتمعت تلك المسارات المتوازية أو المتقاطعة في التجربة الأولى الأبرز لمراجعة الوعي الإسلامي المأزوم، أي تجربة القطبية للشقيقين سيد ومحمد خاصة مع نضجها في أعمال الشقيق الأصغر محمد قطب. فبعد أن بلغت تجربة الإخوان الأولى ذروة المأساة بإعدامات 1966، أخذت أعمال محمد قطب منحى عني بتكوين وتطوير وعي نقدي أعمق تجاه الغرب وأذياله المتكونة في الحقبة الاستعمارية، سواء على الصعيد الفكري المحض كما في كتابه (مذاهب فكرية معاصرة)، أو على الصعيد السياسي والحركي كما في (واقعنا المعاصر). ومن رحم ذلك المسار القطبي ولدت السلفية الثقافية خاصة في نسختها السعودية التي يتصل سند رجالها أو أفكارها إلى محمد قطب، وهي المدرسة التي تحقق فيها المزج بين النزوعين النظريين: المزيد من الإسلام عبر طلب العلم الشرعي، المزيد من الوعي النقدي بالغرب عبر التعرف على العلوم الإنسانية الحديثة وتوظيف أدواتها.

ما نعنيه أن ما يحدث اليوم في الساحة الإسلامية لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج أو تدويرا لذلك المسار القطبي، مما يبرر نظرتنا إليه باعتباره مجرد استجابات كمية لا تحاول سوى المزيد من الإسلام أو المزيد من الوعي النقدي بالغرب دون مغادرة نوعية لأرض الوعي الإسلامي الأول. المثير هنا هو أن نبرة استعلائية حد الصلف تخيم على خطاب كل من تبنى أيا من تلك المسارات تجاه التجربة الفاشلة، على الرغم من عجز تلك المسارات عن الإنقاذ أو الحل أو المبادرة مع مشاركتها أو على الأقل حضورها في واقع التجربة المغضوب عليها، أي على الرغم من كونها (حلولا مستزفة)، فضلا عن كون التجربة الإخوانية كانت في الغالب أكثر ثراء من تلك المسارات. يكفي مثالا على ذلك أن التيار الإسلامي الذي يعد الأنجح عمليا اليوم، أي تنظيم الدولة (داعش)، كان قد اختط طريقه المتطرف منذ 2007 على الأقل بعد إعلانه عن تأسيس دولة العراق الإسلامية وتولي عراب الداعشية أبو حمزة المهاجر منصبه الذي اصطنعه لنفسه: إمارة الحرب. لكن ذلك التنظيم لم ينجح على الرغم من ذلك في تحقيق أي إنجاز يذكر بل كاد ينسى ويأفل، حتى أتى الربيع العربي بالظروف المواتية لمشروعه والتي أعطته قبلة الحياة: انحسار الدولة المركزية أو انهيارها كليا، واحتدام الصراع الطائفي، وهزيمة الإسلام السياسي.

كان يمكن الحديث عن تحول نوعي في الوعي الإسلامي بالإسلام، إذا ما تحقق انتقال من المسار السلفي في معرفة الإسلام والمحدود بالتراث كله أو بما ينتقيه منه، وفقا لمبدأه “أفلح من انتهى إلى ما سمع”، إلى مسار استئناف الدرس الفقهي في صناعته للمعرفة الإسلامية ضمن ظرفه ودون التزام بشرعنة المنهج أو المنتج بنسبته إلى أية حقبة تراثية، طالما حاز المنهج أو المنتج الشرعية الحقيقية بالالتزام بالمصدر الإلهي (القرآن). وكان يمكن الحديث عن تحول نوعي في الوعي بالغرب إذا ما تحقق انتقال من المعرفة الذريعية بالعلوم الغربية أي التي لا تقصد إلا إلى توظيف تلك العلوم في نقد الغرب أو الدفاع عن الذات، أي حين تصير فلسفة العلم مثلا أداة لإثبات خبر الآحاد

[2]

بدلا من كونها معاناة للعلم المعاصر وما يثيره من إشكاليات! إلى سعي إلى المشاركة في الدرس المعرفي الحديث في العلوم غير الدينية الإنسانية والطبيعية باعتبارها منتجات إنسانية، مشاركة واستئنافا ينبعان من معاناة الأسئلة الأساسية في تلك العلوم ومعالجتها والإجابة عنها وفقا لمنهجية علمية غير مؤدلجة؛ أي بأن يصير المختص فيها ليس فيزيائيا إسلاميا، أو فيلسوفا إسلاميا، أو سوسيولجيا إسلاميا، وإنما فيزيائي ومسلم، أو فيلسوف ومسلم، أو سوسيولوجي ومسلم

[3]

. وكان يمكن الحديث عن مغادرة نوعية للإسلام السياسي إذا ما تحقق انتقال من المقابلة الأيديولوجية بين سؤال المجتمع وسؤال السلطة، إلى خروج عن نموذج جماعة الإصلاح الشمولية التي تستبطن مفهوم الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة بما يصنعه من حوائل بينها وبين مجتمعها، إلى نموذج التنظيمات التخصصية المحترفة والمتحررة من القيادة الموحدة، كالأحزاب السياسية التعددية. كان يمكن كذلك الحديث عن مغادرة نوعية إذا ما تحقق انتقال من المقابلة بين السلمية والعنف كأداتين للعمل، إلى السعي إلى اكتساب أدوات العمل السياسي الاحترافي بطبيعته الذريعية (أي التي توظف مختلف الأدوات لتحقيق الغاية) ليكون لدى الإسلاميين نموذج السياسي الخبير ورجل الدولة الحازم الذي بدا واضحا أنهم يفتقدونه.

الحاصل أن ثمة انحباس في الحلول المستنزفة وسير في الطرق الخطأ يخيم على المجال الإسلامي؛ لا يمكن الخروج في أفقه من الاستنزاف إلى الاستئناف سواء في علوم ديننا أو علوم إنسانيتنا، ومن الأيديولجية إلى الاحترافية، أي بألا تصير الخيارات الحركية خيارات أيديولوجية، وإنما خيارات ذريعية كما هي في حقيقتها لا فضل لأحدها على الآخر إلا بقدر تحقيقه للغاية؛ أي بقدر نجاعته. يبقى لدينا تساؤل أخير؛ هو: هل يعني ذلك انسداد الأفق الإسلامي ببقائه حبيس الماضي نظريا وعمليا؟

بقدر ما تحمله تلك المحاولة من حرص على الموضوعية ما يجعلها تبدو شديدة السخط، بقدر ما تحرص على الانعتاق من الاستنزاف وتبشر به. فوصف الاستجابات بالكمية مع ما فيه من النقد لها، إلا أنه يحمل إذا نظر إليه من منظور جدلي، يرى في التصاعد الكمي خطوة نحو التحول الكيفي، تبشيرا بإمكان ميلاد الانفراجة من رحم تلك الحالة المأزومة نفسها. أي أن مسار المزيد الإسلامي قد يتحول جراء الإمعان في الدرس إلى استئناف الإبداع، كما أن مسار المزيد النقدي قد يتحول جراء الإمعان في الاقتراب من الغربي ودرسه إلى لمس الجوهر العلمي لتلك المجالات ومعاناتها ومن ثم المشاركة الإبداعية فيها.



[1]

مثال: محمد عباس: الإخوان والتأسيس الرابع، ساسه بوست، 12/6/2015.


[2]

رضا زيدان: حول خبر الآحاد، مركز نماء للبحوث والدراسات، 14/6/2014.


[3]

على حد وصف الفيلسوف التأويلي بول ريكور لنفسه قائلا: لست فيلسوفا مسيحيا، ولكنني فيلسوف ومسيحي.