منذ عام 1973، وهو تاريخ انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي – كانت بريطانيا على الدوام ابنًا متمردًا داخل الأسرة الأوروبية،مع أنها قد تمتعت فيها بوضعٍ خاصٍ، فلا هي عضو في فضاء شنغن ولا في منطقة اليورو، كما أنها لم توقّع على ميثاق الحقوق، وقد ظل المتشككون في جدوى الاتحاد يثيرون الكثير من الصخب ولا يتركون مناسبة إلا ويعبرون عن رغبتهم في الانسحاب منه.جاءت

الفرصة

لهؤلاء لأول مرة بعد أربعة عقود، ففي عام 2013، وفي محاولة منه لتجاوز الضغوط السياسية والحزبية، وتحقيق الانتصار لحزب المحافظين، وعد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون إن هو أعيد انتخابه في برلمانيات 2015 أن ينظم استفتاءً شعبيًا لحسم الأمر، وهو ما كان فعلا، إذ توجه البريطانيون يوم الخميس 23 يونية/حزيران 2015 للإجابة على السؤال الحائر: هل ستبقى المملكة المتحدة عضوًا في الاتحاد الأوروبي؟


أيد

حزب العمال المعارض والقوميون الأسكتلنديون البقاء في أوروبا، وكذلك حي الأعمال “ذي سيتي” في لندن الذي أراد الاحتفاظ بمكانته مدخلا للشركات الأجنبية إلى الاتحاد الأوروبي كما أيده رئيس الوزراء ديفيد كاميرون وهو من حزب المحافظين.

وفي المعسكر المنافس، فقد قاد تيار المغادرة رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون المحافظين المشككين بأوروبا، وبشر البريطانيين بأيام أفضل بعد استعادة “الاستقلال” والتحرر من توجيهات الاتحاد الأوروبي.

وتدخل جميع القادة الأوروبيين لدعوة البريطانيين إلى البقاء، لأن خروج بلادهم يمكن أن يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، لكن نداءاتهم لم تجد آذانا صاغية لدي البريطانيين الذين اختاروا في النهاية الخروج من الاتحاد، مهما كانت العواقب.


الكل يتساءل عن جدوى البقاء، حتى الملكة نفسها

أعطوني ثلاثة أسباب وجيهة بشأن لماذا يجب أن تبقى بريطانيا جزءًا من أوروبا؟

طُرح ذلك

السؤال

في مأدبة عشاء أقامتها ملكة بريطانيا. أول ما قد يتبادر إلى الذهن أن صاحب السؤال سياسي شوفيني غاضب أو أحد المثقفين ذوي الباع الطويل في النضال ضد العولمة، لكن هذا كان سؤال الملكة نفسها، ورغم أن بيانًا للقصر الملكي قد أكد أن السؤال كان استفهاميا لا إنشائيا، نافيا ما قد يحمله من إيحاء بميل الملكة إلى معسكر الخروج من الاتحاد، فإن سؤالا كهذا – بما يمثله من خروج عن الصمت الملكي المعهود إزاء القضايا السياسية الشائكة – يدفعنا إلى التفكر جديًا في الأسباب التي دفعت البريطانيين إلى التخلي عن المزايا التي يوفرها العملاق الأوروبي، ليعودوا إلى عصر الأوطان الصغرى والأبواب الموصدة.

الهجرة

وقعت قضية الهجرة في

صلب

النقاشات المحتدمة حول الاستفتاء. عارض أنصار الخروج السياسة التي يتبعها الاتحاد إزاء تلك المسألة، وورأوا أن بريطانيا «مستقلة» ستتيح لها رقابة أكبر على الحدود، وهو ما سيحدُّ من تدفق المهاجرين، بما قد يمثله بعضهم – بزعم هؤلاء – من تهديدات أمنية واستنزاف لموارد البلاد الاقتصادية. لكن الأمر لا يقتصر على المهاجرين من الجنوب، الهاربين من مناطق النزاع كسوريا والعراق، بل يمتد إلى المهاجرين من داخل دول الاتحاد الأوروبي الذين لا يلقون ترحيبا كذلك – وقد مثلوا نحو نصف عدد المهاجرين خلال العام الماضي -، إذ يتم التسويق لأن هؤلاء يستنزفون مخصصات الرعاية الاجتماعية، ويقتنصون الوظائف من البريطانيين، وهو ما يؤدي إلى تدني الخدمات العامة. «دعونا نغادر ذلك الكيان المشؤوم إذا ولنغلق على أنفسنا الأبواب التي تجلب لنا الأغيار وسوف نصير بأفضل حال» يهتف بذلك أنصار الخروج.

الاقتصاد

تدفع بريطانيا سنويا نحو 47 مليار دولار تكاليف عضويتها في الاتحاد،

يرى

أنصار الخروج أن من شأن استرداد تلك الإسهامات أن ينعكس إيجابًا على الاقتصاد البريطاني، ويزيد من الناتج المحلي الإجمالي، يقولون إن بروكسل – عاصمة الاتحاد – تفرض الكثير من الإجراءات البيروقراطية التي تعيق نمو الاقتصاد الوطني، أما فيما يتعلق بالفرص الاقتصادية التي يوفرها التواجد في الاتحاد، فإنهم يزعمون أن تلك الفرص تصب في صالح الشركات الكبرى لا المواطن البريطاني، كما يطرحون إمكانية الاحتفاظ بعلاقات تجارية مع الاتحاد على غرار سويسرا والنرويج.

المكانة الدولية

ينفي هؤلاء أيضا أن يكون للخروج تأثير كبير على مكانة البلاد في الساحة الدولية، ويؤكدون أنها ستحتفظ بمكانها كونها قوة نووية وعضوا في حلف شمال الأطلسي، وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي.


أنصار البقاء ومحاولات فاشلة لإنقاذ الوضع

كان هذا

تعبير

شابة بريطانية تدعى موللي أبراهام في تعليق على موقع بي بي سي، تنتمي مولي إلى جيل فيسبوك وانستجرام وأيزي جيت، «هذا الجيل الذي لا يريد رؤية بريطانيا مقطوعة عن العالم، حيث الفرص المتاحة تنتهي على الحدود، ونفوذ بريطانيا يتوقف عند شواطئها. هؤلاء الشباب كبروا في عالم التعاون الدولي والنمو الاقتصادي والإنجازات التكنولوجية ووسائل التواصل الاجتماعي، وشهدوا الحواجز تتساقط حول العالم»،بحسب توصيف وزيرة التعليم البريطانية في رسالتها للشباب البريطاني قبل الاستفتاء.

لعبت

حملة البقاء داخل الاتحاد على وتر ما يمكن وصفه «بالتباينات الجيلية» في المجتمع البريطاني، ففي حين يميل كبار السن للتصويت للخروج من الأتحاد بسبب مخاوف متزايدة من الهجرة والإرهاب، فإن جيل الشباب يفضل البقاء بسبب المزايا الكبيرة التي يمنحها لهم ومن ضمنها حرية الحركة والتنقل والعمل والدراسة والإقامة في أي بلد أوروبي، ركزت الحملة على الشباب، واعتبرت أن سؤال الاستفتاء يتعلق بمكاسب الغد التي قد يعنيها البقاء، في مقابل المكاسب الآنية المحدودة التي قد يحملها الخروج، ظلت الإشكالية الكبري أن هؤلاء الشباب لا يذهبون بشكل كبير إلي صناديق الاقتراع.حاول أنصار البقاء كذلك تفنيد الحجج التي يسوقها معسكر المغادرة، فأما سؤال الهجرة، فإن الدراسات تشير إلى أن المهاجرين يسهمون أكثر في الضرائب من دون تكلفة خزينة الدولة، كونهم من الشبان. وبالتالي، فإن إسهام المهاجرين من الاتحاد الأوروبي أعلى بنسبة 34% مما يتلقون.أما فيما يتعلق

بالاقتصاد

، فيعتبرون أن الفوائد التي تجنيها بريطانيا من الاتحاد أعظم بكثير من الثمن الذي تدفعه، ووفقًا لحسابات المركز الأوروبي للإصلاح، فإن انضمام بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي أدى إلى زيادة صادراتها بنسبة 55%، وبحسب بعض الدراسات يمكن أن يؤدي خروج بريطانيا إلى خسارة الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030 بين 0.8% إلى 2.2%.أما عن

الوظائف

فهناك ثلاثة ملايين وظيفة مرتبطة مباشرة أو بصورة غير مباشرة بهذه الصادرات والواردات، بينما يزيد حجم الاستثمار الأوروبي المباشر في بريطانيا عن 700 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 50% من إجمالي الاستثمارات. وتعتمد الوظائف التي تتوافر في البلاد على استمرار عضويتها في الاتحاد، وكذلك رخص الأسعار بسبب المنافسة على 500 مليون مستهلك.

كانت تلك هي الأعمدة الرئيسية التي اعتمدت عليها حملة البقاء remain في مقابل حملة الخروج Brexit، ولكن يبدو أن تلك الحجج لم تقنع البريطانيين الذين انحازوا إلي المعسكر الأخير، فصوت أغلبهم للخروج من الاتحاد.


سيناريوهات ما بعد الخروج

سيحتاج الأمر إلي وقت وإلي إجراءات روتينية أخري قبل أن يخرج البريطانيون بشكل فعلي من الاتحاد،كما سيكون لهذا الاستفتاء تداعياته الكبري داخليا وخارجيا، فقد

أعلن

رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أنه سيستقيل من منصبه بحلول أكتوبر/تشرين المقبل، بعد أن رفض البريطانيون الاستجابة لدعواته التصويت بالبقاء.

ستتجه الأنظار كذلك إلي العاصمة الاسكتلندية إدنبرة ، لدي الاسكتدلنديين

حب

فطري لأوروبا ، وهم يفضلون أن يصبحوا جزءًا من الاتحاد، سواء أراد الإنجليزيون ذلك أو رفضوه، بمعنى أكثر صراحة: فإنه خروج لندن من الأسرة الأوربية، يعطي دفعة للأحزاب القومية للمطالبة بتنظيم استفتاء آخر على انفصال اسكتلندا.

أما فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي نفسه، فتشير التقديرات إلي

ثلاثة سيناريوهات

متوقعة: أولها أن هذا الخروج سيكون بداية انهيار الاتحاد، حيث سيحدث ضعف في موازين القوي السياسية والأمنية وسترغب دول أخري في الخروج، أي أننا سنكون أمام المزيد من التشظي والانقسام بين دوله.

السيناريو الثاني هو بقاء الاتحاد علي ما هو عليه، حيث ستكون ألمانيا القوة الكبري مع بعض الاحتكاكات المستقبلية بفرنسا، وهو سيناريو سيحمل المزيد من التوتر والتشنج بين الدول التي تسعي إلي أن يكون الاتحاد «فوق قومي»، وتلك التي تريد أن تمارس سيادتها الوطنية الكاملة من دون تدخل من بروكسل.

السيناريو الثالث هو أن يدفع خروج بريطانيا الشركاء الأوروبيين إلي مزيد من التعاون والاندماج، حيث سيتم الإبقاء علي سياسات اقتصادية مشتركة وتعاون عسكري أوسع، لكن إتمام هذا السيناريو سيحتاج أولا إلي الوصول إلي اتفاقات معينة مع الحكومة البريطانية.


رصاصة الرحمة: البريطانيون يقررون هدم الجسور وبناء الجدران

من هو ذلك المجنون الذي يريد غلق الحدود ومنعنا من الدراسة والعمل في ألمانيا أو فرنسا ومطالبتنا بتقديم طلبات للحصول على تأشيرات دخول لإيطاليا والبرتغال وأسبانيا؟

قد يكون المرشح الرئاسي الأمريكي دونالد ترامب جاهلًا بالسياسة وقواعدها، قد يكون فاقدًا للياقة، يمكن للبعض اعتباره فاشيًا، لكن الأكيد أنه ليس غبيًا على الإطلاق، وحين سُئل عن موقفه من الاستفتاء البريطاني على الاتحاد الأوروبي فإنه

لم يستطع

منع نفسه طويلا من أن يجود بنصيحته على البريطانيين فطالبهم أن يتبنوا خيار الخروج، كان يعلم أن هذا من شأنه أن يقوي موقفه على الصعيد العالمي، وأن يثبت للأمريكيين المترددين أن أفكاره حول الجُدُر الفاصلة والانعزال ليست بذلك الشذوذ، وأن لها مناصرين في قلب عاصمة الضباب. كان الانتصار في لندن اليوم من شأنه أن يعزز فرصته في الوصول إلى البيت الأبيض غدا.كان الاستفتاء في أحد جوانبه – مع عدم إغفال بعض الاعتبارات الموضوعية بالطبع – أحد

جوانب

معركة التيار الجديد الصاعد بسرعة الصاروخ على الساحة العالمية، «التيار الترامبي» لو كان لنا أن نطلق وصفًا كهذا، حيث نوستالجيا الدولة الوطنية الصارمة المعادية لدعوات الانفتاح والعولمة، والكارهة للأجانب، التي تهوي بناء الجدران وتنوي هدم الجسور، الحانقة على النخب السياسية القائمة، كانت تلك جولة من معركة عالمية طويلة، في ميادين الثقافة والسياسة، سجل الترامبيون نقطة انتصار في بريطانيا، واطلقوا رصاصة الرحمة علي علاقة لندن بالاتحاد، وهم الآن يستعدون لمعركة البيت الأبيض القادمة، ليبقي السؤال المخيف قائما :هل سيعود التاريخ إلي الوراء؟