كان أردوغان لا يزال رئيس بلدية إسطنبول عندما قال في خطاب إلى مؤيديه في أكتوبر 1998: «يوجد في هذا البلد فصل بين الأتراك البيض والأتراك السود؛ وأخوكم (طيب) هو واحد من الأتراك السود». مجددًا، وبعد أن أصبح رئيسًا للوزراء، وصف أردوغان نفسه بأنه «تركي أسود» في لقاء له مع النيويورك تايمز، مايو 2003.



في خطاب إلى مؤيديه في أكتوبر 1998، صرَّح أردوغان: «يوجد في هذا البلد فصل بين الأتراك البيض والأتراك السود؛ وأخوكم (طيب) هو واحد من الأتراك السود».

لم يكن أردوغان هو الذي ابتكر هذا التعبير الجذَّاب؛ وإنما نيلوفر جولي، عالمة الاجتماع التركية التي اختارت ألا تبقى بعيدًا عن «من لا مساس بهم» بحسب تعبيرها في وصف النخب الإسلامية الجديدة، بحيث لم تعد «نقية» في نظر الكماليين، وقد وجدت كلّما تناقشت معهم أن هؤلاء أقرب إليها من كثير من العلمانيين الكماليين؛ ولا غرو فهي ليبرالية تقدمية.

بفضل جولي صار استخدام هذين التعبيرين: الأتراك البيض، والأتراك السود، متداولًا في منتصف التسعينات؛ حيث يصف «الأتراك البيض» الطبقة الراقية العلمانية المدنية التي كانت تحتفظ بالسلطة السياسية في يدها منذ قرون. يحاول هؤلاء أن يكونوا غربيين بأي ثمن، عبر السموكينج والقفازات الدانتيل لفساتين السهرات، والرقص وشرب الخمر في حفلات السهرة والاحتفال برأس السنة، أو عبر الحديث بلغات أجنبية عديدة. وطبعًا، عبر البعد عن كافة المظاهر الدينية. لكنهم لم يريدوا من الغرب نظامه الديمقراطي، فهم من أنصار تصور شديد الاستبداد فيما يخص السلطة.

أما «الأتراك السود» فلا يشربون الخمور ولا يرقصون الرقصات الغربية، والقليل منهم مَن يتحدث لغة أجنبية؛ لكنهم يسعون إلى الديمقراطية، رغبة في التخلص من نير استبداد نخبة التنوير المزعوم، وإعطاء البسطاء حق تقرير المصير.

بدأ ذلك التمايز الاجتماعي الحاد، الذي استعارت جولي لغة الفصل العنصري لوصفه كونه أقرب إلى نظام أبارتهايد (نظام فصل عنصري)، مع نشأة الجمهورية التركية. فقد حملت نخبة الجمهورية الجديدة، على نحو نخب التحرر الوطني في العالم الثالث بما فيه الوطن العربي، مشروع تحديث قسري، اتخذ بحكم الجوار الجغرافي والتطلع الأتاتوركي المبالغ فيه إلى أوروبا، طابعًا تغريبيًا متطرفًا في اقتباس كل ملمح مهما كان شكلِيًا وسطحيًا من أوروبا، بل ربما صار الشكل والمظهر بمرور الوقت هو الغاية دون المضمون.

تقوقعت نخبة السلطة الأتاتوركية في العاصمة، وكلما مرت السنوات، كانت الهوة بين نخبة العاصمة وبين الشعب التركي البسيط في الأقاليم تتضاعف. بحلول عام 1946، بدأت جحافل الأناضوليين (سكان الأقاليم) تطرق أبواب العاصمة، قلعة النخبة، مع تشريع التعددية السياسية. فالحزب الديمقراطي DP برئاسة عدنان مندريس، الذي تأسس عام 1946، قبل أن ينجح في الانتخابات العامة الأولى عام 1950 ليتبوأ السلطة على مدى عقد كامل من الزمن، قبل أن يطيح به الجيش، مايو 1960، فيما أطلقوا عليه ثورة التصحيح، بدا وكأنه حزب الأقاليم. فبينما صوّتت نخبة العاصمة لصالح حزب الشعب الجمهوري CHP، حزب الكمالية، صوّتت الأقاليم لصالح الحزب الديمقراطي. وكان هذا هو الانتصار الأول للأتراك السود الذين أعلنوا أنهم الأغلبية الديمغرافية التي ينبغي أن تحظى من الحقوق بما يوازي حجمها.



كانت هجرة الأناضوليين إلى الحضر باكورة التحولات الاجتماعية التي ستفضي لاحقا إلى تحول عميق في الحياة السياسية التركية.

كانت هجرة الأناضوليين إلى الحضر، على خلفية الانفتاح الاقتصادي الذي تبناه الحزب الديمقراطي في الخمسينات، باكورة التحولات الاجتماعية التي ستفضي لاحقا إلى تحول عميق في الحياة السياسية التركية. وقد استشعرت النخبة التقليدية ذلك الخطر، كما يظهر في تصريح فخر الدين كريم جوكاي، محافظ إسطنبول وعضو حزب الشعب الجمهوري (1949-1957): «يجتاح الشعب الشواطئ، حتى إن المواطن لم يعد باستطاعته السباحة». هكذا كان جوكاي واضحًا في تحديد من هو الذي تنظر إليه الدولة التركية باعتباره مواطنًا، ومعلنًا في الوقت ذاته بداية الغزو الأناضولي.

بالنزوح الأناضولي إلى المدينة، حوصرت المدينة بأحياء عشوائية قطنها أولئك المهاجرون، والذين كان من بينهم والد الرجل الذي سيعيد رسم تركيا جديدة غير تركيا أتاتورك، رجب طيب أردوغان، الذي ولد في حي قاسم باشا بإسطنبول 1954. تم تقنين أوضاع تلك الأحياء لاحقًا وتنظيمها، لكنها ظلت مفرزًا لإنتاج طبقة وسطى جديدة حافظت على تدينها العميق الذي ورثته عن أسلافها، خلافًا للنخبة الكمالية؛ لكنها شقت طريقًا مختلفًا عن طريق آبائهم، فخاضوا غمار التعليم بجد، وحصلوا على شهادات عليا من الجامعة، ليس في العلوم الدينية، وإنما في التخصصات الحديثة. كما وفَّرت مدارس الإمامة والخطابة الموروثة من عهد أتاتورك، والتي هدف منها إلى إخراج رجال دين ملتزمين برؤية الدولة، محضنًا تربويًا لتلك النخب الجديدة؛ خاصة بعد أن أتاح قانون صدر عام 1973 لخريجي تلك المدارس، الالتحاق بالجامعة باعتبارهم خريجي مدارس ثانوية. ومرة أخرى كان أردوغان من بين خريجي تلك المدارس الذين كونوا طبقة وسطى من المهنيين المحترفين الذين يملكون الإمكانات اللازمة لحيازة السلطة والثروة.



عمل أوزال على توجيه الأناضول للصناعة، وبفضله نمت في الهضاب نخبة جديدة من رجال الأعمال العصاميين؛ الذين أطلقوا على أنفسهم: «نمور الأناضول».

أما التحول الثاني فهو الذي أطلقت شرارته إصلاحات تورغوت أوزال، رئيس الوزراء تركيا (1983-1989)، ورئيس جمهوريتها لاحقًا حتى وفاته (1989-1993). أنهى أوزال رأسمالية الدولة التي اعتمدتها الجمهورية باستثناء خمسينات الحزب الديمقراطي، وتبنى اقتصادًا مفتوحًا. وقد عمل على توجيه الأناضول للصناعة، وبفضله نمت في الهضاب نخبة جديدة من رجال الأعمال العصاميين؛ الذين أطلقوا على أنفسهم بفخر: «نمور الأناضول». من بين هؤلاء مصطفى بودياق، صاحب إحدى المجموعات العملاقة في صناعة الأثاث، وأحد رموز النجاح الاقتصادي الاستثنائي الذي حققته محافظة «قيصري» الأناضولية. وجدت تلك المجموعة من رجال الأعمال في قيمها الإسلامية دافعًا للازدهار الاقتصادي، وتبنوا نمطًا برجوزايًا من التدين يذكر بالنمط البروتستانتي الذي نظر إليه ماكس فيبر باعتباره وقودًا للرأسمالية؛ يقول بودياق: «نحن في قيصري، نشاطر الكالفينية الرأي بأن العمل أحد أشكال العبادة». كانت تلك المجموعة هي الظهير الاقتصادي الذي أمكن «سود تركيا» من تبوأ السلطة وتحقيق النماء السريع الذي أسس شرعية الإنجاز التي قام عليها حكم العدالة والتنمية، واستند إليها في مواجهته مع النخبة التقليدية.

خلقت تلك السيرورة الاجتماعية الطويلة في تركيا نموذجًا نظريًا للديمقراطية أقرب في تفاصيله إلى المنطقة العربية والإسلامية من النموذج النظري للديمقراطية الغربية، وذلك بحكم التقارب الزماني والمكاني والثقافي. فقد سمح هامش الديمقراطية الذي تمتعت به النخبة الإسلامية الجديدة على مدى وقت طويل بتحويل تلك النخب من التصور الإسلامي الرومانتيكي للإصلاح باعتباره استعادة لماضٍ ذهبي جاهز ومغايِر لنمط الحداثة الغربية، إلى مجموعة ديمقراطية ليبرالية تطالب بالمزيد من الاقتراب من الحضارة الغربية في قيمها الجوهرية. وهو التحول الذي لم تستوعبته الحركات الإسلامية المشرقية إلا بعد عقد من الزمن.

أما الملمحين الآخرين لذلك النموذج فقد تمثل في اكتشاف فهم جديد لمسألتي المواطنة والعدالة الاجتماعية. إذ مثّل النجاح في معركة الديمقراطية فرصة لتحقيق مساواة فعلية بين المكوّنات النمطية بغض النظر عن خلفيتها الثقافية أو الطبقية، وهي الخلفيات التي لطالما عطّلت انصهارها في المجتمع والدولة التركيين. وعلى الرغم من النقد اليساري الذي توجه إلى التجربة التركية باعتبارها تجربة نيو ليبرالية، إلا أن سياسة الانفتاح الاقتصادي أثبتت – في ظل وجود قيادة وطنية على غرار أوزال ثم أردوغان – قدرتها على تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية، وتحرير الشعب من أسر الدولة التي تمتلك وسائل معاشهم. أي أن التجربة أثبتت أن معركة العدالة والحرية كانت في جوهرها، وعلى الأقل في خطوتها الأولى، معركة الديمقراطية.

لكن نجاح تلك الديمقراطية المسلمة في معركة الديمقراطية والتنمية قد وضعها أمام تحديات جديدة، وهي التحديات التي توّجتها محاولة الانقلاب مؤخَّرًا. يتمثل التحدي الأول للديمقراطية المسلمة في قدرتها على مواجهة الرأسمالية الجامحة التي تقوم على تدين برجوازي، وعلى الحفاظ على طابعها الديمقراطي من خطر التحول إلى نظام سلطوي ذي طابع جديد؛ وهو التحدي الذي تسبب في تراجع شعبية أردوغان والذي قد يؤدي فشل الانقلاب إلى تضخمه أو إلى تراجع أردوغان وحزبه خطوة إلى الوراء. أما التحدي الثاني فهو ما يبدو أنه كان وراء تفكك الحلف التاريخي بين جماعة جولن وحزب أردوغان، وهو قدرة الديمقراطية المسلمة على التزام انتمائها الإسلامي بما يحمله عليها من أعباء دولية، وهو الأمر الذي تفضل جماعة جولن بطابعها الصوفي الفردي التخلي عنه، في حين يدفع الطموح السلطاني والحماسة الدينية أردوغان إلى التمسك به. وهما التحديان الذي ينبغي أن يوضعا محلا للتناول في مجالات أخرى أوسع.


المراجع



  1. راينر هيرمان: تركيا بين الدولة الدينية والدولة المدنية، الصراع الثقافي في تركيا، ت: د. علا عادل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2012.