من نصف الكرة الغربي، تأتينا تقارير وأخبار وبيانات وصور، تقول بأن ثمة حكومات وشعوب بعيدة تدعم فلسطين وقضية شعبها، تلك هي أمريكا اللاتينية التي تتشارك مع القوة الأكبر الداعمة للكيان الصهيوني في هذا الموقع الجغرافي من العالم. لكنها، بسبب كثير من أبعاد وأسباب الخلاف والاختلاف، تقف أمريكا اللاتينية من القضية الفلسطينية على جانب مقابل لذلك الذي أرسته جارتها الشمالية الكبرى (الولايات المتحدة).

ترسّخ هذا كانطباع عام لدى العرب، تحديدًا في السنوات الأخيرة، ومع كثرة البيانات من الرسمية التي تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي من دول أمريكية لاتينية. منها ما لا تقارن لهجته في حدتها ببيانات الحكومات العربية. ومع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتضامن الشعبي الواسع من شعوب تلك الدول مع القضية الفلسطينية، الذي اتخذ صورًا عديدة.

لكن؛ إذا حاولنا مقاربة مواقف دول أمريكا اللاتينية، لأهميتها، فإن ثمة أسئلة كثيرة ستجد مجالًا للطرح، أهمها؛ هل هي مواقف موحدة، أم شبه موحدة، أم مواقف متباينة؟ وما هو مسار تلك المواقف: محطاتها الرئيسية، والعوامل التي أثرت فيها – ولا تزال، وتأثيراتها، وكذلك طبيعتها وحدودها، ومتى كان الاختلاف بين الحكومات اللاتينية، ومتى كان التوافق؟


أمريكا اللاتينية تساهم في تأسيس «إسرائيل»

في نوفمبر 1949، لعبت حكومة البرازيل، ممثلة في رئيس وفدها، ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك، أزوفالدو أرانا Oswaldo Cruz، دورًا كبيرًا في التصويت لصالح مشروع تقسيم فلسطين، سواء عبر محاولات الدبلوماسي البرازيلي، وثيق الصلة بواشنطن والحركة الصهيونية، دفع الدول الأعضاء للتصويت على القرار، أو قيامه بتأجيل التصويت ثلاثة أيام من أجل إقراره.



لعبت دول أمريكا اللاتينية دورًا محوريًا في تأسيس ودعم الكيان الصهيوني، منذ 1948، حتى سبعينات القرن الماضي.

فيما أعلنت نتيجة التصويت عن دور مهم للدول الأمريكية اللاتينية الأخرى، فقد صوتت (13) دولة لاتينية، من بين (33)، لصالح قرار التقسيم، وامتنعت عن التصويت (6) دول من بين (10)، وكانت كوبا وحدها الدولة الرافضة للقرار من بين 13 دولة.

هذا الدور التأسيسي تبعته مواقف كثيرة لدول أمريكية لاتينية في الهيئة الأممية، أسهمت في ترسيخ وجود الكيان الصهيوني، سواء لجهة إعطائه الشرعية القانونية والرسمية، أو الوقوف ضد إدانة ممارساته، وهو ما خدم مصالح الكيان حتى حرب 1973.

وبدون الدخول في تفاصيل تتعلق بالقرارات والمواقف. التي صاحبها علاقات رسمية بين الطرفين، الإسرائيلي والأمريكي اللاتيني. فإن ثمة مواقف لتلك الدول، ككتلة تصويتية، أو لعدد منها، ذات أهمية ودلالة، مثل: مشروع قرار قبول «إسرائيل» عضوًا بالأمم المتحدة، الذي كان اقتراحًا تقدمت به (7) دول بينها (4) دول أمريكية لاتينية، في مايو/أيار 1949، وصوتت بتأييده (18) دولة لاتينية. ودعم تلك الدول للكيان الصهيوني بعد اعتداء 1967، مُمثلًا في مشروع القرار المقدم للأمم المتحدة في العام نفسه، الذي وضع شرط قبول العرب بـ «إسرائيل» من أجل انسحابها من الأراضي المحتلة؛ اعترافًا بحقها في الوجود الآمن، والتفاوض المباشر مع العرب على خلفية هذا الاعتراف. كذلك الوقوف من قبل دول لاتينية ضد قرارات، أو مشاريع تدين «إسرائيل»، وتعتبرها كيانًا معتديًا حتى عام 1969.


انحسار الدعم اللاتيني لـ «إسرائيل»

بدأ انحسار الدعم اللاتيني نسبيًا عام 1973، مع انتهاج بعض الدول (شيلي، والأرجنتين، وبيرو، والإكوادور) سياسة عدم الانحياز، ما أدى إلى اتخاذها مواقف إيجابية من القضية الفلسطينية، فقد أيدت الدول التي انضمت فعليًا إلى حركة عدم الانحياز قرارات الحركة وموقفها المتمثل في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وإدانة احتلال «إسرائيل» للأراضي العربية، والدعوة إلى الانسحاب منها. بينما تراوحت مواقف الدول الأخرى بين التحفظ والتأرجح، وفي مقدمتها البرازيل. وبشكل عام، ظلت العلاقات لا سيما العسكرية قوية بين «إسرائيل» ومعظم الدول اللاتينية.

هناك الكثير من التفاصيل الخاصة بموقف كل دولة على حِدة وتطوره، لكن إجمالًا يمكن القول بأنه، وحتى العقد الأخير من القرن العشرين، فإن موقف الحكومات اللاتينية من «إسرائيل» انقسم ما بين التأييد المطلق، والتحفظ، والإدانة محدودة الفاعلية والزمن.



كانت كوبا هي الدولة اللاتينية الوحيدة التي تميز موقفا تجاه القضية بالثبات، فرفضت عدوان 1967، وقطعت العلاقات مع إسرائيل عام 1973.

وإجمالًا أيضًا فإن العوامل التي تقف وراء ذلك متعددة ومتشابكة، أبرزها يتعلق بسياسات الحكومات التي خضعت في معظم تلك الفترة لنفوذ الولايات المتحدة، وهذا ليس حكمًا مطلقًا ومبسطًا، بمعنى أن ثمة حكومات كانت تابعة لكن تأثر موقفها من القضية بفترات اضطراب في العلاقات مع الولايات المتحدة، أو ابتزازها (كثيرًا ما كانت الحكومات الموالية لأمريكا تقايضها على المواقف والسياسات، خاصة لجهة الدعم الاقتصادي).

كما تولت لفترات قصيرة في بعض الدول حكومات يسارية الاتجاه، كان دعم القضية جزءًا من توجهها العام، وفي إطار سعيها للاستقلال عن القرار الأمريكي. بجانب توجه حكومات أخرى صوب المنطقة العربية سعيًا لإقامة علاقات معها، والذي تبعه اهتمام بالقضايا العربية ودعمها، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الرأي القائل بأن «دول» أمريكا اللاتينية دعمت القضية من الستينيات باعتبارها قضية تحرر، في وقت تصاعدت فيه الحركة النضالية ضد الإمبريالية في القارة، يعتبر غير دقيق.

فثمة فرق بين «الءفحكومات» اللاتينية، والشعوب وتنظيماتها وحركاتها، لأن الأولى حكمت مواقفها كما ذكرنا محددات عدة، بل إن صعود الكثير من الحركات اليسارية المسلحة في السبعينيات والثمانينيات، والتواصل والدعم من قِبلها، ومن القوى التقدمية في القارة للمقاومة الفلسطينية، حيث الوقوف على أرضية نضالية واحدة، كان من أسباب موقف الحكومات السلبي من القضية، تلك الحكومات الديكتاتورية العسكرية الموالية للولايات المتحدة.

بقيت كوبا الاستثناء الوحيد من معظم تلك المحددات والتشابكات، ومن مؤقتية المواقف الداعمة للقضية، وتذبذبها، فهي الدولة، ومنذ حكمها فيديل كاسترو، التي انفردت في موقفها الرافض لعدوان 1967، وقطعت العلاقات مع إسرائيل عام 1973، فكانت الأكثر حدة في إدانة «إسرائيل» ورفض ممارستها، والأعلى صوتًا في دعم القضية، إلى أن حدث التغيير، الذي جاء بوريثتها وحلفائها، ووضع موقف دول أمريكا اللاتينية من القضية موضعًا آخر.


اليسار يقود قاطرة التحول

في عام 2009 تحديدًا بدت أمريكا اللاتينية أكثر مناطق العالم التي تأتي منها أصوات الإدانة للكيان الصهيوني، وكانت المواقف الرسمية والشعبية لكثير من دولها محل اهتمام الرأي العام العربي، كونها كانت الأكثر حدة في إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، خاصة عند مقارنتها بالموقف الرسمي العربي.

هذه المواقف وقفت وراءها أسباب عدة، في مقدمتها؛ أنه في الفترة من (1998-2009) كان قد وصل إلى سدة الحكم قادة يساريون في تسع دول أمريكية لاتينية (فنزويلا، والبرازيل، والأرجنتين، وأوروجواي، وبوليفيا، وشيلي، ونيكاراجوا، والإكوادور، والسلفادور)، بالترتيب الزمني. هؤلاء ومع تصنيفهم بين يسار ويسار الوسط، واختلافهم فيما تبنوا من سياسات، ما بين الاشتراكية والاقتصادية الليبرالية، إلا أنهم كانوا أبناء تنظيمات وحركات يسارية، منها ما كان مسلحًا، ومنهم من عانى اعتقالًا وتعذيبًا وتشريدًا في النضال ضد الديكتاتوريات العسكرية.

هذا التحول الكبير لم يرتبط فحسب بالانتماءات الأيديولوجية والسياسية للقادة أصحاب المواقف اللافتة من القضية الفلسطينية، لكن هناك اعتبارات كثيرة تتعلق بجوهر ومسار عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها تلك الدول بعد فترة الحكم العسكري، فوجود تلك الأنظمة كان نتاج مرحلة وبداية لأخرى، حكمتها المعاناة من سياسات الليبرالية الجديدة، والتغيير المرتكز على ضرورة التخلص من نفوذ الولايات المتحدة، وبناء نظام إقليمي جديد يستهدف الاستقلال عن واشنطن وإعادة التشكيل الإقليمي والتموضع الدولي؛ وهو ما انعكس على السياسة الخارجية والمواقف من القضايا الكبرى، وتنشيط المساعي لفتح قنوات تواصل وتعاون مع الدول التي تجمعها بها كثير من المشتركات.

حدة الموقف المناهض لإسرائيل من قِبل عدد من الحكومات، وهدوء موقف أخرى، برغم الاشتراك في إدانتها واتهامها ودعم الحق الفلسطيني، يرجع إلى التمايز وانقسام الأنظمة اللاتينية إلى مجموعتين، واحدة انتهجت سياسيات اشتراكية، وصعّدت مواجهاتها مع الولايات المتحدة وتزعمتها فنزويلا، التي اعتبر رئيسها هوغو تشافيز وريثًا لكاسترو في سياساته ومواقفه، وتعتبر تلك الدول «إسرائيل» دولة إرهابية، وكيانًا عنصريًا استعماريًا، يمارس عملية إبادة ضد الشعب الفلسطيني، كتلك التي تعرض لها سكان الأمريكتين الأصليين، وهو ما تجلى صراحة في موقف فنزويلا وبوليفيا والإكوادور ونيكاراجوا من عدوان 2009، على مستوى بيانات إدانة «إسرائيل»، والمطالبة بمحاكمة قادتها دوليًا على ما ارتكبته من جرائم حرب، أو قطع فنزويلا وبوليفيا العلاقات معها، وطرد فنزويلا السفير الإسرائيلي من كاراكاس، وفتح سفارة فلسطينية فيها.

المجموعة الأخرى التي أدانت انتهاكات «إسرائيل» أيضًا وأعلنت دعمها للقضية، لكن بلهجة أقل حدة، ومنها شيلي والأرجنتين والبرازيل، هي الأقل صدامًا مع الولايات المتحدة، وليست راديكالية السياسات والمواقف. والبرازيل تحديدًا، دائمًا ما حرصت على ما يمكن اعتباره موقفًا «متوازنا»، لا يؤثر على طموحها في الزعامة الإقليمية للقارة، وفي دور دولي مؤثر، فمثلما تعد الأكثر تعاونًا مع «إسرائيل» في المجالات العسكرية والزراعية والتقنية، سعت إلى فتح قنوات شراكة اقتصادية مع الدول العربية، ومثلما لا تستطيع أن تغرد خارج سرب الدول اللاتينية التي باتت شبه مجمعة في موقفها الرافض لما يقع على الشعب الفلسطيني، فإنها كذلك تريد الفاعلية في الساحة الدولية، ولا تريد تحمل كلفة الصدام السافر مع القوى الكبرى.


الرؤية اللاتينية لحل القضية



بدت أمريكا اللاتينية، منذ عام 2009، أكثر مناطق العالم التي تأتي منها أصوات الإدانة للكيان الصهيوني، وقد ارتبط ذلك بصعود اليسار هناك.

وإذا أردنا بعيدًا عن الاختلاف معرفة موقف الدول اللاتينية من حل القضية الفلسطينية، فإنه، وحسب ما اتفقوا وأعلنوا رسميًا، يتعين أن يقوم على أساس الاتفاقيات والمبادرات السابقة، ومبدأ «الأرض مقابل السلام»، ويتلخص في إنشاء دولة فلسطينية على أساس حدود 1967، وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وإزالة المستوطنات بما فيها مستوطنات القدس الشرقية.

وقد شهدت الفترة التي تبعت حرب غزة 2009، محاولات اتفاق وتعاون وتكامل بين الدول اللاتينية لتشكيل قوة إقليمية مستقلة، وتقليل مساحة الاختلافات، التي تشكل عوائق ذلك البناء، وكان الموقف من القضية الفلسطينية من المسائل التي بدا فيها التوافق، فحتى عام 2013 كانت معظم تلك الدول قد اعترفت بدولة فلسطين، فضلًا عن التصويت لمنحها صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، في نوفمبر 2012، وانضمامها إلى منظمة اليونسكو عام 2011، ولم يُستثن من هذه المواقف سوى الدول قوية الارتباط بالولايات المتحدة. كما كان الصوت اللاتيني هو الأعلى أيضًا في إدانة العدوان على غزة في 2014، والتنديد بما ارتكبه الكيان الصهيوني من جرائم، فيما تميزت فنزويلا بما قدمته من دعم مادي.

عمومًا، رغم تباين مستويات مواقف الدول اللاتينية، وتعدد محدداتها ما بين الانحياز الإنساني والأيديولوجي إلى قضية عادلة، والمعادلات السياسية وقوائم الخصوم والحلفاء، والمصالح الاقتصادية، فإنها تظل أهم وأبرز المواقف الرسمية الداعمة للقضية، والتي لم تُستغَل عربيًا، على المستوى الرسمي أيضًا، وفي أسباب هذا تفاصيل أخرى.

وإذا كان ما جاء أعلاه هو موقف الأنظمة اللاتينية من القضية، فماذا عن الشعوب التي تتحرر مواقفها مما يحكم الأنظمة، لجهة التقييد أو الحذر أو التحفظ أو تشابك الحسابات؟

الإجابة في الحلقة الثانية من قصة أمريكا اللاتينية وفلسطين.