سنوات عدة مرت، تمتعت خلالها حركات المقاومة بالمنطقة العربية بالدعم الشعبي نظير مواقفها الصارمة من إسرائيل وتبنيها لخطاب المقاومة. بمرور الوقت والانشغال بقضايا التمدد وتوسيع النفوذ، تلاشى هذا الخطاب تقريبًا. بدأت المقاومة تفقد بريقها. وتصدّع خطابها السياسي. في هذه الأثناء جاء القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ليشكل فرصة لهذه الحركات والدول الداعمة لها لإعادة ترتيب أولوياتها وإنتاجها خطاب المقاومة والممانعة من جديد.


تحول في السياسات والممارسات

في 2006

خاض حزب الله

حرباً شرسة مع إسرائيل غداة خطفه جنديين إسرائيليين على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. نجح الحزب في الاستفادة من الحرب. فاجتذب القلوب والعقول. لم يقتصر الأمر على الداخل اللبناني. امتدت مكانة الحزب في مناطق عدة بالعالم العربي. أصبح الحزب في نظر الكثيرين قوة عربية قادرة على الوقوف في وجه العدوان الإسرائيلي.

مرت سنوات ظل الحزب خلالها قائدًا لحركات المقاومة وبطل المضطهدين في الكفاح ضد الظلم إلى أن جاء عام 2011. انتشرت موجة الثورات والانتفاضات بالمنطقة. اندلعت الثورة في وجه النظام السوري. وجد الحزب نفسه مضطرا للدخول في أتون الحرب إلى جانب نظام «الأسد». كان سلاح الحزب الدافع الرئيس وراء مشاركته في الحرب. فقد كانت سوريا الممر للسلاح الآتي من إيران، والمكان الذي يتم فيه تخزين بعض منه، فضلًا عن كونها المكان الذي يدرّب فيه قواته. وقد هدّدت الثورة بإسقاط «الأسد»، الأمر الذي من شأنه، أن يفقده شريان الحياة المهم.

هكذا فرضت اعتبارات المصلحة على الحزب تلبية طلب إيران بمساعدة النظام لسحق المعارضة. تغيرت دفته من الصراع مع إسرائيل إلى مساعدة النظام السوري. لكنها كانت مساعدة ذات تكلفة كبيرة أتت على حساب دوره ومكانته التي استمر في بنائها طيلة السنوات الماضية.

فدعمه لنظام يذبح شعبه أسفر عن خسارته للقبول الذي كان يحظى به في المنطقة العربية. أصبح الحزب قوة شيعية تقتل السنّة في سوريا، مما قوّض الدعم الذي كان يحظى به في المنطقة، وحسر حضوره السياسي من كونه بطلاً قوميًا عربيًا إلى مجرّد لاعب شيعي محلي في لبنان.


إعادة إنتاج خطاب الممانعة

اليوم وفي ظل حالة الانحسار والفجوة بين السياسات الفعلية والتوجهات المعلنة فيما يتعلق بالحزب وحركات المقاومة. يأتي اعتراف الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بالقدس عاصمة لإسرائيل، ليعطي فرصة للحزب ومختلف هذه الحركات ليعيدوا خطاب الممانعة مرة أخرى ويعيدوا بذلك المكانة التي فقدوها سابقًا.

عملًا بمفهوم هيكل الفرص السياسية، (أحد مفاهيم المدرسة الواقعية الذي قدمه «Peter Eisinger»، يقضي بضرورة اقتناص الفرص)، بدأت حركات المقاومة وفي مقدمتها حزب الله وحماس في توظيف القرار الأمريكي، وعادت مفاهيم المقاومة والاستكبار الأمريكي في خطابهم مرة أخرى.

فأمام شعار «فلسطين الحبيبة ستتحرّر»، وصورة لمسجد قبة الصخرة، وقف الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله»،

يندد بالعدوان

الأمريكي ويدعو إلى الانتفاضة وتنظيم الاعتصامات والتظاهرات الشعبية، وإغلاق السفارات وطرد السفراء. لم يكتف نصر الله بذلك بل حرص على التنديد والتشهير بالتوجه الخليجي نحو التطبيع والتعاون مع إسرائيل، ليميل الكفة بذلك نحو الحزب كحركة مقاومة رافضة لأي تقارب مع العدو المحتل.

على المسار ذاته، تصاعدت نبرة التهديدات والتحذيرات من مختلف حركات المقاومة. إذ توالت التأكيدات على زيادة المواجهات على نقاط التماس وتفعيل الخلايا والعمليات الفردية في الضفة والقدس والداخل المحتل.

وشدد «إسماعيل هنية»

رئيس المكتب السياسي لـ «حماس»، على أنه أعطى تعليمات لأبناء الحركة للتحضير للمرحلة المقبلة لمواجهة هذا الخطر الذي يهدد القدس.

بالفعل سادت حالة من الاستنفار في صفوف المقاومة

وأطلقت قذائفها

على المستوطنات الإسرائيلية التي تقع في غلاف غزة. الأمر الذي أدى إلى سلسلة من الغارات الجوية من قبل إسرائيل على مواقع عسكرية لحماس في القطاع. مع ذلك يبقى التساؤل مطروحًا: إلى أي مدى يمكن أن يصل التصعيد من قبل حركات المقاومة؟ هل تكتفي بالضربات الخاطفة والدعوة إلى التظاهرات أم أن الأمر قد يمتد لما هو أبعد بما يعيد مشهد حرب 2006 مرة أخرى؟

هنا نجد أن الإجابة على هذا التساؤل تتوقف على عوامل عدة أبرزها قدرات وإمكانيات حركات المقاومة ومفاضلتها بين الرغبة في عودة مكانتها مرة أخرى كقائدة للصراع ضد الاحتلال ومدافعة عن القدس وبين تلك القضايا التي شكلت الأولوية لديها عبر السنوات الماضية. فحزب الله لديه اليوم إمكانيات أكبر مقارنة بعام 2006. حيث

أصبح أكثر خبرة

وكفاءة بعد مشاركته في القتال في سوريا. وبات يملك عشرات آلاف المقاتلين، ومنظومة أسلحة متطورة وأكثر دقة. وهو يرغب في التخلص من صورته حاليًا الملطخة بالدماء السورية، لكن هل بإمكانه الدخول في معركة جديدة مع إسرائيل في ظل انشغاله بالقتال في سوريا؟ أم يكون تواجده في سوريا عامل تهديد إضافيٍّ لإسرائيل، حيث يطبق عليها فكيه؟


إيران: لنبقى الممانعة حصرًا علينا



بدأت حرمات المقاومة وفي مقدمتها حزب الله وحماس يتوظيف القرار الامريكي عملًا بمفهوم هيكلة الفرص السياسية أحد مفاهيم المدرسة الواقعية

مثلما أتاح القرار الأمريكي الفرصة لحركات المقاومة للاستفادة منه وإعادة تقديم نفسها من جديد، أعطى الفرصة لإيران لتتزعم محور المدافعين عن القضية الفلسطينة. فدائمًا ما قدمت طهران نفسها على أنها المناصر الأول لفلسطين. وبنت خطابها منذ نجاح الثورة الإسلامية في 1979 على أمرين مركزيين أولهما: أمريكا هي الشيطان الأكبر في العالم وإسرائيل مجرد أداة لهذا الشيطان، وثانيهما أن الولايات المتحدة تاريخيًا ليست وسيطًا نزيهًا الصراع العربي الإسرائيلي.

في هذا الإطار، عملت طهران على توظيف قرار ترامب لصالحها، فسعت لإبقاء خطاب الممانعة حصرًا عليها وعلى حركات المقاومة من ورائها، مستغلة في ذلك تراجع الخطاب العربي خاصة السعودي وحالة الإحباط والغضب اللتين تجتاحان العالم العربي جرّاء القرار.



استطاعت إيران توظيف الاعتراف الأمريكي سياسيًا وإعلاميًا بما يكشف التخاذل والتواطؤ في الخطاب السعودي بشأن القضية الفلسطينة بما يدفع نحو توسيع نفوذها بالمنطقة

بدأت إيران باستغلال القرار إعلاميًا عبر تمسكها بخطاب المقاومة. فلا يكاد يخلو خطاب أي من مسئوليها من الحديث عن المقاومة وأن قرار «ترامب» سيكون شرارة انتفاضة كبرى ضد إسرائيل. كما توالت الأنباء الإيرانية عن أن القرار الأمريكي سيسهل على طهران تشكيل جبهة إقليمية للدفاع عن فلسطين.

شكل الخطاب الإيراني إحراجًا للعديد من الدول العربية، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج التي اكتفت بالتأكيد أن القرار سيضر بجهود السلام. فدائما ما أكدت المملكة أنها المدافع عن القضية الفلسطينية، بالرغم من هذا لم تحرك ساكنًا للدفاع عنها.

كما تعمدت

على ما يبدو ألا يعطى القرار أولوية في التغطية سواء في وسائل إعلامها أو في مساجدها وخاصة المسجد الحرام والمسجد النبوي. وفي الوقت الذي خرجت فيه المظاهرات في مختلف الأنحاء بالمنطقة

حذرت سفارتها

مواطنيها بالأردن من المشاركة في تلك التظاهرات.

كان من الطبيعي نتيجة لذلك أن يصب هذا في خدمة توسيع النفوذ الإيراني بالمنطقة، حيث أثبت هذا – على الأقل من ناحية الشكل – صحة مقولات طهران في أنّ المملكة تخلت عن القضية وبدأت خطواتها للتطبيع مع الاحتلال.

وما زاد الأمر سوءًا بالنسبة للمملكة، ذلك المسار الذي يتخذه ولي العهد «محمد بن سلمان» للانفتاح على إسرائيل، والانصياع للسياسات الأمريكية حتى لو جاء هذا على حساب القضية الفلسطينية. وهو الأمر الذي

أشارت إليه

العديد من التقارير الأمريكية والإسرائيلية والتصريحات الفلسطينية مؤخرًا . حيث وضحت أن للمملكة الدور الرئيسي في «صفقة القرن» وعملية السلام التي يدفع بها «ترامب»، وأنها هي من تضغط على الفلسطينيين للتخلي عن القدس عبر مبادرة سلام جديدة تتضمن اختيار بلدة «أبو ديس» المجاورة لمدينة القدس، لتكون عاصمة لفلسطين بدلًا من القدس الشرقية.

في هذا الإطار تبدو حماس ومن ورائها طهران كأحد العوائق أمام تنفيذ الصفقة، فالقرار الأمريكي يدفع نحو مزيدٍ من التوطيد والتقارب في علاقة الجانبين. وما يزيد من احتمالية هذا أنه في ظل هذه الأوضاع المشتعلة من الصعب على حماس أن تتخلى عن سلاحها الأمر الذي قد يشكل عقبة في وجه إتمام المصالحة الفلسطينية. وفي حال عدم إتمامها فستبقى إيران هي الداعم الحقيقي لها والحاضنة للمواقف المدافعة عن القدس.

أخيرًا، يمكن القول إن الاتصال الذي أجراه «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسي للحركة بالرئيس «روحاني» ربما يكون خطوة أولى في مسار التنسيق بين الجانبين لمواجهة هذا الخطر المحيط بالقدس، ولكن ما الذي يمكن أن يسفر عنه هذا التعاون؟ هذا ما تحمله لنا الأيام القادمة.