تايوان.. لا يصدق المرء للوهلة الأولى أن تلك الجزيرة الصغيرة المستقلة تعمل بمثابة المكبح الذي يلجم مساعي التنين الأصفر للانطلاق وإعلان نفسه كقوة عالمية مؤثرة على غرار الولايات المتحدة. تعتبر بكين أن ضم جزيرة تايوان أولى أولوياتها، ما يفسر الإصرار الأمريكي على دعم استقلال تايوان وإمدادها بأحدث الأسلحة.يضع القادة العسكريون الصينيون نصب أعينهم تجهيز الجيش ليكون قادرًا على تحدي نظيره الأمريكي، الذي يعد خصمه الأول. ويتضح ذلك جليًا في عمليات التجسس والاختراق الإلكتروني للهيئات العسكرية الأمريكية، والحرص الشديد على تتبع تطور الإمكانيات التسليحية الأمريكية.المتتبع لبرامج تحديث الجيش الصيني يلاحظ أنه منذ أزمة مضيق تايوان عام 1996 التي ظهر فيها الضعف النسبي للإمكانات العسكرية الصينية، تم تبني خطة للتغلب على نقاط الضعف في سلاح البحرية. فتم تطوير سلاح الغواصات ليتحدى حاملات الطائرات التي تعد القوة الضاربة للبحرية الأمريكية. وحدثت نقلة للبحرية الصينية، التي تاريخيًا لم يكن لها دور يذكر غالبًا، فالصينيون على مدار التاريخ لم يكن لهم اهتمام بالبحر إلا نادرًا، حتى أن جزيرة تايوان نفسها اكتشفها البرتغاليون وسكنوها قبل سكان بر الصين أنفسهم!كان الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق فرصة أتاحت للصينيين دراسة السلوك العسكري للولايات المتحدة بدقة. اكتشفوا الاعتماد الكبير على الأقمار الصناعية، فاستطاعوا تطوير أسلحة قادرة على استهداف الأقمار الصناعية في عمق مداراتها أو التشويش عليها أو حتى السيطرة عليها وخطفها،

وأجروا تجارب ناجحة

في هذا المجال. واستطاعوا تحديث سلاح الجو بصورة كبيرة وقد كانت الطائرات الأمريكية الحديثة هي النماذج التي عمل الصينيون على محاكاتها، على اعتبار أن السبيل الوحيد لتجنب المواجهة العسكرية مع واشنطن هو الاستعداد لتلك المواجهة بمنتهى القوة.

اقرأ أيضًا:

قضية الصين الواحد تعود للواجهة من جديد بفضل ترامب


تحولات العقيدة القتالية

مر الجيش الصيني بمراحل عديدة في طريق تحوله من جيش عقائدي يعتمد على الكثرة العددية، مهمته الوحيدة الدفاع عن النظام الشيوعي وحراسة حدود الوطن، لجيش حديث محترف يعتمد على القوة البحرية بشكل كبير. وبدأت تلك التحديثات على يد الرئيس «دينج شياو بينج»، الذي أطلق سياسة التحديث عام 1978، وكان تحديث الجيش أحد محاورها الأربعة. فأعاد العمل بالرُتب العسكرية التي ألغاها سلفه «ماو تسي تونج»، و

سرح حوالي مليون جندي

خلال عقد الثمانينات، وطبق نظام الخدمة الإجبارية بدلًا من نظام التطوع، وزاد الاهتمام بالمستوى التعليمي للضباط والجنود. سار خليفته الرئيس «جيانج زيمين» على نفس النهج. ففي المؤتمر الـ15 للحزب العام 1997، قرر تخفيض عدد الجيش بمقدار نصف مليون عنصر خلال الفترة الممتدة حتى العام 2000. وما زالت سياسة ترجيح الكيف على الكم

متبعة حتى الآن

في عهد الرئيس «شي جين بينج». وقد اتسمت سياسة التحديث العسكرية بأنها ذات بعد اقتصادي؛ فمن المعروف أن الجيوش كيانات استهلاكية بحتة. لكن المؤسسة العسكرية الصينية تخالف تلك النظرية، فالجيش يدير آلاف المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية ويشارك بقوة في بناء الاقتصاد، ويصدّر كميات ضخمة من السلاح، ويحقق فائض ربح بمئات المليارات سنويًا، فقد أخذوا العبرة من تجربة انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب الإنفاق الهائل على التسلح ووعوا الدرس جيدًا فكان الاقتصاد مسيرة النهضة. اقرأ أيضًا:

كيف أضعف التجنيد الإجباري الجيش الصيني؟

عبر عدد من السياسيين عن مخاوفهم من تسرب النزعة التجارية للجيش، الأمر الذي من شأنه أن يضعف الروح الكفاحية للمقاتلين؛ لاسيما بعد تزايد الأخبار المتعلقة بحالات من الفساد المالي لعدد من العسكريين.


ما وراء البحار

كان تحديث سلاح البحرية من أبرز ملامح التحديث، حيث امتد عملها للبحار والمحيطات البعيدة. وقد تم اختيار منطقة مضيق باب المندب ليشق منها الأسطول الصيني طريقه نحو العالمية، حيث بدأ تواجده العسكري بالمنطقة تحت ذريعة محاربة القرصنة أمام سواحل الصومال، وتم تتويج تلك الجهود بافتتاح أول قاعدة عسكرية خارج الحدود الصينية في الأول من أغسطس/ آب 2017.وفي الشهر التالي بدأت القوات الصينية تدريبات عسكرية قرب ميناء جوادر بباكستان، الذي من المقرر أن يشهد أعمال تشييد ثاني القواعد العسكرية الصينية قريبًا. إلا أن ما يميز التطلعات الصينية العالمية بأنها تأتي استجابة لحاجات داخلية وفق تراتبية دقيقة. فالانتشار العسكري البحري جاء تابعًا للانتشار الاقتصادي وخادمًا له، فتواجد الجيش الصيني قرب الممرات البحرية جاء بهدف حماية طرق التجارة، التي امتدت لتصل إلى القارات البعيدة. كما أن الإعداد لمواجهة الجيش الأمريكي، تراه بكين ضرورة فرضتها الحماية الأمريكية لتايوان، فوحدة أراضي الصين هي الأولوية الأولى للتنين الأصفر، مما يعني أن ضم الجزيرة ستكون خطوة لابد منها خلال الفترة المقبلة. وعلى الجانب الآخر لا تستطيع واشنطن التخلي عن تايوان، لأن هذه الخطوة ستجعل الحلفاء الآخرين سواء في شرق آسيا أو في أي مكان يفقدون الثقة بها، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على النفوذ الأمريكي حول العالم، لذلك توقع «ستيف بانون»، كبير المستشارين الإستراتيجيين للرئيس الأمريكي، أن المواجهة العسكرية مع الصين ستكون حتمية خلال مدى أقصاه ثمان سنوات من الآن. اقرأ أيضًا:

تمرد الصين وتفجّر آسيا: سيناريوهات الصراع الأمريكي الصيني

وسيرًا على مبدأ العمل على وحدة أراضي الدولة، تعتبر بكين أن أخطر التهديدات تأتيها من المسلمين الإيغور أهالي إقليم تركستان الشرقية، والذي تسميه بـ«إقليم سنكيانغ»، وتحتله منذ عام 1949. لذا أدرجت مهمة «مكافحة الإرهاب وحفظ الاستقرار» ضمن أهداف الدفاع الوطني في تقرير عمل الحكومة، الذي قدمه رئيس مجلس الدولة «لي كه تشيانغ» أمام الدورة السنوية للمجلس الوطني لنواب الشعب في الخامس من مارس/ آذار الماضي.وبناءً على هذه التوجهات دعمت بكين نظام بشار الأسد، وتبنت موقفًا سلبيًا من الثورة السورية، بسبب خوفها من انتقال عدوى الثورة إلى مسلمي تركستان الشرقية، التي يشارك ثلاثة آلاف من أبنائها في القتال ضد نظام الأسد. وقد تداولت وسائل إعلامية روسية أنباء تفيد بوصول قوات صينية خاصة تعرف باسم فرقة نمور الليل لميناء طرطوس السوري أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لقتال التركستانيين، بعد زيارة «بثينة شعبان»، مستشارة بشار الأسد، إلى بكين، ناقشت فيها التعاون في ملف مكافحة الإرهاب. إلا أن المبعوث الصيني إلى سوريا نفى هذه الأنباء، لكن ما لم يتم نفيه بشكل قاطع حتى الآن وجود مستشارين عسكريين صينيين في دمشق يعملون مع جيش نظام الأسد منذ ثلاث سنوات.وتؤكد الدكتورة «نادية حلمي»، أستاذة العلوم السياسية بجامعة بني سويف، والخبيرة بالشؤون الصينية، أن إعلان الرئيس الصيني فى يناير/ كانون الثاني 2016 عن «وثيقة التعاون مع العالم العربي فى المجال الإستراتيجي والأمني»، تأتي بهدف التصدي للحركات الانفصالية داخل الصين. لافتة إلى صدور أول قانون لمكافحة الارهاب، والذي وضع حيز التنفيذ ابتداءً من الأول من يناير/ كانون الثاني 2017، وإنشاء «مركز الاستخبارات الوطني» لتنسيق الجهود الداخلية والخارجية بشأن المخابرات والمعلومات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، للتصدي للحركات الانفصالية لاسيما الحركات الإسلامية الإيغورية.


صاروخ مكافحة الإرهاب

واتساقًا مع ما يسمى بـ«سياسة مكافحة الإرهاب»، كثف الجيش الصيني وجوده العسكري في تركستان الشرقية. نظم عددًا من الاستعراضات العسكرية الضخمة هناك، وتم إنتاج أسلحة خاصة لتتبع الجماعات الانفصالية واستهدافها، مثل صاروخ (AR-2) الذي يسمى بـ«صاروخ مكافحة الإرهاب»، وهو صاروخ جو – أرض قصير المدى يستخدم في النزاعات منخفضة الحدة. تم استخدامه في المنطقة لإرهاب الحركات الانفصالية من مسلمي الإيغور.

وتشكل التطورات السابق ذكرها مؤشرات واضحة على أن بكين بدأت في التخلي شيئًا فشيئًا عن سياسة الحياد التام تجاه القضايا الدولية والتعامل بشكل أكثر حسمًا مع عدد من الملفات المؤجلة، على اعتبار أنها وصلت إلى حالة من القوة تمكنها من حسمها لصالحها. وبزوغ نزعة توسعية عدائية اتسم بها السلوك العسكري الصيني في الآونة الأخيرة، بعدما أصبح التنين الأصفر خصمًا في كثير من النزاعات الإقليمية، كالنزاع مع فيتنام حول جزر باراسيل، و مع الفلبين حول جزر سكاربورو شول، والنزاع على جزر سبراتلي مع ماليزيا واندونيسيا والفلبين وبروناي، ومع اليابان على جزر سينكاكو.

كما أن عدم استيعاب النظام الصيني لمشكلة الأقلية المسلمة في تركستان الشرقية، واعتماد القوة الغاشمة كسبيل وحيد، والملاحقة المستمرة للإيغوريين الفارين في أنحاء العالم قد يفتح فصلًا طويلًا من المواجهات التي تستهدف المصالح الصينية حول العالم، والتي بلغت من الانتشار حدًا يجعل من الصعوبة بمكان تأمينها وتحصينها، فالدول كلما تعاظمت قوتها تضاعفت حاجاتها وأطماعها، وزاد في المقابل أعداؤها وتضاعفت مخاوفها ومشكلاتها.