غيابه عن المشهد مربك كحضوره تمامًا

هكذا باختصار يمكننا وصف الحالة التي أثارتها الأنباء المتداولة عن وفاة الجنرال الليبي «خليفة حفتر»، والتي لما تتأكد بعد. إذ لم يكن أحد يتوقع أن تكون يد القدر هي من تُغيّب الرجل الأقوى في ليبيا، وليس يد أعدائه الكُثر. فمن هو خليفة حفتر صاحب الرحلة الحياتية المفعمة بالدراما والمغامرة، التي بدأت قبل نحو 5 عقود؟


حفتر والقذافي من المحبة إلى العداء

ولد خليفة بلقاسم حفتر بمدينة أجدابيا، شرقي ليبيا، عام 1943، لأسرة تنحدر من قبيلة الفرجان، تتمركز في مدينة سرت غربي ليبيا على بعد 450 كم من العاصمة طرابلس. تلقى خليفة تعليمه الابتدائي بمدرسة الهدى سنة 1957، ودرس الإعدادية بمدرسة أجدابيا الداخلية، ثم انتقل إلى مدينة درنة لإكمال دراسته الثانوية بالفترة 1961 – 1964، والتحق بعدها بالكلية العسكرية الملكية بمدينة بنغازي.

تخرج حفتر في كليته عام 1966، وعُين ضابطًا بسلاح المدفعية في مدينة المرج، شرقي بنغازي. تأثر الشاب ذو الـ 23 عامًا بحركة الانقلابات العسكرية التي سادت المنطقة العربية في تلك الحقبة، فغامر بنفسه وشارك مع مجموعة من الضباط الليبيين، بقيادة العقيد معمر القذافي، في الانقلاب على ملك ليبيا الراحل إدريس السنوسي في سبتمبر/ أيلول العام 1969.

خليفة حفتر, ليبيا

اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر

أصبح حفتر أحد المقربين من القذافي بعد توليه الحكم، فأرسل إلى روسيا للحصول على دورة عسكرية في «فيادة الفرق» تحصل فيها على تقدير الامتياز، ما أهله ليكون ضمن قيادة القوات الليبية خلال حرب أكتوبر 1973، وحاز وقتها نوط العبور المصري.

عين القذافي حفتر قائدًا عامًا للقوات الليبية التي تخوض حربًا مع تشاد، فكانت هذه بداية السقوط. مُنيت ليبيا بهزيمة نكراء على يد القوات التشادية المدعومة من فرنسا، وأُسر حفتر في معركة وادي الدوم مع المئات من جنوده في 22 مارس/ آذار 1987، وتغيرت حياته منذ ذلك الحين إلى الأبد.



تنكر القذافي لحفتر قائلًا إنه «لا توجد لدية قوات في تشاد». فرد خليفة بالانشقاق عن الجيش والانضمام إلى صفوف «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا».

تنكر القذافي لحفتر وجنوده المأسورين قائلًا إنه «لا توجد لدية قوات في تشاد». وهكذا لم يعد خليفة ابنًا للقذافي،

كما وصفه ذات مرة

، فانشق عن الجيش وانضم إلى صفوف «الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا»، وهي جماعة معارضة مقرها تشاد كانت تخطط للإطاحة بالقذافي، بدعم من الولايات المتحدة التي

كانت تعتبر القذافي

في ذلك الحين «الكلب المسعور في الشرق الأوسط».

اقرأ أيضًا:

هل تنجح مساعي حفتر في السيطرة على ليبيا؟


تعاون حفتر

منذ ذلك الحين بشكل وثيق مع المخابرات المركزية الأمريكية، وقاد مجموعة من الجنود خضعوا لتدريبات على أيدي أفراد من قسم الأنشطة الخاصة في وكالة الاستخبارات المركزية، وهي الذراع شبه العسكرية للوكالة. رغم هذه الجهود، فشل المخطط الأمريكي لتدبير انقلاب على القذافي، واضطرت واشنطن لنقل حفتر والقوات الليبية المعارضة من تشاد عام 1990، عندما هدد الزعيم التشادي الجديد بطردهم. في البداية، فر العسكريون إلى نيجيريا ومن ثم إلى زئير، لكن اتضح أن لا أحد من الزعماء الأفريقيين يريد بقاءهم في أراضيه، فقررت أمريكا نقلهم إلى أراضيها.


نقلت طائرة عسكرية أمريكية

حفتر و350 من الثوار الليبيين إلى الولايات المتحدة، وتحديدًا إلى ولاية فرجينيا، حيث واصل بعضهم، وبينهم خليفة، تدريباتهم العسكرية في مناطق ريفية بالولاية في انتظار فرصة جديدة للإطاحة بالقذافي. ورغم أن الفرصة الجديدة أتت في العام 1993 لكنها لم تنجح، وحكمت ليبيا على حفتر بالإعدام.

اقرأ أيضًا:

هل ينتصر حلفاء حفتر في ليبيا؟

يئس خليفة من محاولاته للإطاحة بالقذافي فترك جبهة الإنقاذ، لكنه حافظ على علاقات جيدة في أوساط المعارضة الليبية. عاش حفتر طوال عقدين في الولايات المتحدة بعد أن حصل على جنسيتها،

وتمتع بمستوى معيشي جيد

، حيث عاش في منزل مكون من خمس غرف نوم في حي هادئ بالقرب من ملعب غولف شهير، لكن لا أحد يعرف كيف صنع أمواله. استمر الوضع على هذه الحال حتى 2011 عندما تغير كل شيء في ليبيا للأبد.


حفتر يعود إلى ليبيا

أسالت انتفاضة ثوار ليبيا ضد القذافي في فبراير/ شباط 2011 لعاب خليفة حفتر، وأحيت في نفسه آمال الإطاحة بالعقيد، فالتحق بركب الثورة في مارس/ آذار 2011. وبعد الإطاحة بنظام القذافي ومقتله في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، اختلف عسكريو الجيش الليبي الذين دعموا الثوار حول حفتر، فمنهم من طالب بتنصيبه قائدًا للجيش نظرًا لأقدميته وخبرته الكبيرة، ومنهم من طالب بإبعاده لدعمه القذافي في انقلاب 1969، ولعلاقته بالمخابرات الأمريكية.

استُبعد حفتر سريعًا وأفل نجمه، فعاد إلى بيته في ولاية فرجينيا لـ «يستمتع بأحفاده» كما قال في لقاء مع مجلة نيويوركر. مع تدهور الأوضاع في ليبيا وتنامي قبضة الميليشيات، لاسيما الإسلامية منها، عاد حفتر المعروف بميوله العلمانية للتواصل مع بقايا القوات المسلحة الليبية، والساخطين على الإسلاميين، وبعض القبائل التي هُمشت في معادلة السلطة الجديدة -وربما بعض دول المنطقة المعادية للإسلاميين- وعاد إلى ليبيا مرة أخرى.

كانت عودة حفتر شديدة الغرابة هذه المرة، إذ ظهر صباح 14 فبراير/ شباط 2014 في خطاب متلفز، معلنًا سيطرة قوات تابعة له على مواقع عسكرية وحيوية في مدينة طرابلس، أعلن عن «خارطة طريق» لمستقبل ليبيا السياسي، تتضمن إيقاف عمل المؤتمر الوطني «البرلمان آنذاك» الذي يسيطر عليه الإسلاميون. لكن ما هي إلا ساعات حتى تبين أن ما قاله الرجل مجرد كلمات، وأنه لا يسيطر على العاصمة. واعتبرت السلطات الليبية آنذاك تحركات حفتر انقلابًا على شرعية الدولة، وأمرت بالقبض عليه.

اقرأ أيضًا:

ثري ليبي يشتري الجنائية الدولية لصالح «حفتر»

وفي 16 مايو/ آيار 2014، عاد حفتر مرة أخرى إلى واجهة الأحداث، معلنًا انطلاق عملية عسكرية سميت «عملية الكرامة» ضد كتائب الثوار الإسلامية وتنظيم أنصار الشريعة الجهادي. بعدها بأيام تبين أن خطاب حفتر هذه المرة ليس مجرد كلمات، وأعلن أول مسئول ليبي، وهو وزير الثقافة الحبيب الأمين، تأييده لحفتر، بعدها أعلنت وزارة الداخلية الليبية تأييدها أيضًا، وانضم إليه العديد من قبائل الشرق الليبي وكتائب في الجيش ومديريات أمن جميع مدن الشرق، لينتهي الأمر بإعلان الحكومة المؤقتة التي يترأسها عبد الله الثني، تأييدها حفتر.

وفي يوليو/ تموز 2014، بعد انتخاب مجلس النواب الليبي «البرلمان» المجتمع في مدينة طبرق أقصى الشرق أبدى المجلس دعمه للعملية العسكرية التي يقودها حفتر، وأصبح لحفتر بعض الشرعية. حصل حفتر على دعم كبير من عدد من دول المنطقة المعادية للإسلاميين، وعلى رأسها الإمارات ومصر. إذ

أقامت أبو ظبي قاعدة جوية

قرب مدينة المرج شرق ليبيا، تعمل بها طائرات هجوم خفيفة وأخرى من دون طيار من أجل معاونة حفتر في حملته العسكرية.

واستقبلت مصر حفتر عدة مرات

بصفته قائدًا للجيش الليبي، ودعت في أكثر من مناسبة إلى رفع الحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على تسليح جيش حفتر.


على مدى الأعوام الأربعة الماضية نجح حفتر في السيطرة على مساحات واسعة من شرق ليبيا وجنوبها، إذ يسيطر على العديد من المدن كـ بنغازي ومساعد وطبرق وسرت والكفرة ومنطقة الهلال النفطي. وأصبح طرفًا لا يمكن تجاوزه في الصراع الليبي.


سيناريوهات ما بعد حفتر



على مدى الأعوام الأربعة الماضية نجح حفتر في السيطرة على مساحة واسعة من ليبيا، وأصبح طرفًا لا يمكن تجاوزه في الصراع الليبي.

تطرح وفاة حفتر حال تأكدها العديد من الأفكار لما ستكون عليه الأوضاع في ليبيا، يمكن اختصارها في الآتي:

1. تتكون القوات الموالية لحفتر من خليط غير متجانس من الميليشيات والقبائل والولاءات لا يجمعها سوى شخص حفتر، وهو ما يجعل احتمالية تفكك هذه القوات وتفتت ولاءاتها أمرًا مرجحًا ما لم تظهر سريعًا شخصية قيادية تتولى زمام الأمور.

2. ستكون حكومة الوفاق الوطني في طرابلس المعترف بها دوليًا، أحد أكبر المستفيدين من غياب حفتر عن المشهد، إذ سيتيح لها هذا التمدد في مساحات الفراغ السياسية والعسكرية التي سيخلفها غيابه، وحتى إذا لم تسطع التمدد عسكريًا في الأماكن التي يسيطر عليها حفتر حاليًا، فغيابه سيسمح لها ولداعميها دوليًا بالضغط على جبهته من أجل القبول بمصالحة عاجلة.

3. قد يستفيد سيف الإسلام القذافي، نجل العقيد معمر القذافي، بقوة من غياب حفتر. فغياب الجنرال القوي سيعزز مساعيه ليصبح رقمًا صعبًا في المعادلة الليبية، إذ قد ينجح في استقطاب بعضٍ من قواته، خاصة تلك التي كانت توالي والده. كما سيفتح غياب حفتر الطريق أمام سيف الإسلام للترشح للانتخابات الرئاسية الليبية المزمع إجراؤها العام الجاري والتي لما تتحدد خطتها بعد.

اقرأ أيضًا:

بعد الهجوم على بشير صالح نتساءل: أين ذهب نظام القذافي؟

4. ستكون مصر والإمارات أكبر الخاسرين من غياب حفتر عن المشهد الليبي، بعد أن عملتا لسنوات على الاستثمار فيه عبر دعمه سياسيًا وعسكريًا بكل الطرق الممكنة. وقد تعاني مصر أزمةً أمنية كبيرة من جهة الغرب إذا انفلتت الأمور في شرق ليبيا وعادت الجماعات المتطرفة المعادية لمصر للسيطرة عليه مرة أخرى.