إنها أكثر من مجرد لعبة، كلمة يرددها عشاق الكرة حين يرون لاعبًا يبكي لخروج فريقه، أو يرون معركة تثأر فيها دولة مقهورة من أخرى ظلمتها كما حدث مع لاعبيْ سويسرا حين احتفلا بشعار النسر الألباني أمام الصرب. لكن كرة القدم ليست أكثر من مجرد لعبة بالنسبة للمشجعين فحسب، بل للسياسيين أيضًا.

اقرأ أيضًا:

النسر الألباني في كأس العالم: قصة الألبان وخصومهم الصرب

.

فلطالما استُغلت البطولات الرياضية سياسيًا سواء من قبل أنظمة دكتاتورية تحاول إبعاد الإعلام عن ممارساتها، أو من قبل أنظمة غير ناجحة تبحث جاهدةً عن أي نجاح تصدّره لشعوبها. لكن ليست كل حالات الاستغلال بهذا الوضوح، فهنالك حالات رمادية لا تعرف فيها أيحب الرئيس كرة القدم حقًا أم أن له هدفًا آخر منها.

وفي مونديال روسيا 2018 برزت أمثلة كثيرة على أن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة سواء للمشجعين أو للحكومات. ومن الحالات الرمادية التي ظهرت على السطح بقوة كانت الرئيسة الكرواتية «كوليندا غرابار كيتاروفيتش». حرصت كوليندا على الظهور وسط المشجعين لا في المقصورات الزجاجية، وأن تعانق لاعبي منتخب بلادها لا أن تصفق لهم بهدوء ودبلوماسية.


1. من هي كوليندا؟

حاصلة على بكالوريوس الآداب في اللغة الإنجليزية من جامعة زغرب الكرواتية، زوجة أشهر بطل للتزلج في كرواتيا، وتبلغ من العمر 50 عامًا. في 2005 كانت وزيرة الخارجية، ثم في 2008 سفيرةً لدى واشنطن ثم شغلت من 2011 حتى 2014 منصب الأمين العام المساعد لشؤون الدبلوماسية العامة في حلف شمال الأطلسي، وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب.

ثم في فبراير/ شباط 2015 فازت بالرئاسة بنسبة 50.4%، لتصبح هي رابع رئيس في تاريخ كرواتيا بعد استقلالها، وأول امرأة تتولى هذا المنصب أيضًا. تتبنى وجهات نظر منفتحة نحو العديد من القضايا التي تمر ببلادها مثل زواج المثليين، وترى ضرورة إباحة الإجهاض وتقنينه بدلًا من منعه نهائيًا. كما وقّعت في 2016 على اتفاقية باريس للمناخ للحد من الاحتباس الحراري.


2. ما هي كرواتيا؟

العضو الثامن والعشرون ضمن الاتحاد الأوروبي، تقع في جنوب البلقان، عاصمتها زغرب. تحتوي على ثلاث مجموعات دينية؛ هم الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمون، يراها مهندس نهضتها فرانيو تودجمان حصن المسيحية في أوروبا، مساحتها أقل من 57 ألف كيلو مترًا، وسكانها لا يتجاوزون الـ 4 مليون نسمة. من الشرق تحدّها صربيا، ومن الغرب البوسنة والهرسك.

كانت جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية «هابسبورغ»، ثم جزءًا من مملكة يوغسلافيا، ثم صارت دولة كرواتيا المستقلة. تنقسم إلى 20 ولاية «كانتونًا»، بجانب كانتون زغرب. دخلت كرواتيا حربين ضد الجيش الشعبي اليوغسلافي الذي كان يدعم انتفاضة الأقلية الصربية ضد الدولة وانتصرت فيهما. امتدت الحرب حتى عام 1999، خسرت فيها كرواتيا 14 ألف قتيل، و38 ألف جريح، وهجرها 150 ألف مواطن، ولجأ أكثر من 550 ألفًا من مواطنيها لدول خارجية، وأنفقت ما يعادل 30 مليار يورو.

اقرأ أيضًا:

كيف تبني دولة؟ درس بسمارك الذي لم يفهمه العرب


3. ما سلطات رئيس الدولة؟

بدأت كرواتيا استقلالها بحكم الرئيس فرانيو تودجمان الذي قاد العديد من عمليات الإبادة العرقية ضد البوسنة والهرسك، والذي آمن أن كرواتيا يجب أن تحكمها 200 أسرة فقط هم أغنى من فيها، لكن بعد وفاته تحولت كرواتيا من النظام الاستبدادي إلى النظام البرلماني، ما جعل دور رئيس الدولة شرفيًا. وتعتبر أول مهام الرئيس وأهمها هي البدء في إجراءات تعيين رئيس الوزراء.

ويمتلك رئيس الوزراء صلاحيات وضع السياسات العامة للدولة وبرامجها الإنمائية والاقتصادية. صلاحيات رئيس الوزراء في كرواتيا تجعله في سلطة أقوى من الرئيس عدا ما يتعلق بالقوات المسلحة. هذه الصلاحيات التي جعلت كوليندا

تقول في خطابها

في 9 مارس/ آذار 2018 إنها ترى ضرورة القيام بالإصلاحات في كرواتيا وضرورة الالتفات إلى النصائح الدولية فيما يتعلق بالمشاكل التي تواجهها الدولة.

لكن بما أنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا بخصوص هذه الإصلاحات فإنها منزعجة من عدم أخذ المسئولين الأمر على محمل الجد، تقصد رئيس الوزراء. جاء الرد القوي من آندريه بلينكوفتش أنه لا يبالي بما تقوله الرئيسة ولا يكترث لانتقاداتها، وأنه وفريقه يعملون بجد على حل المشاكل دون الحاجة إلى عدسة مكبرة خارجية أو إلى مترجم خاص ليشرح لهم أين توجد المشاكل.


4. نقلت بلادها نقلة نوعية؟

لم تكن كرواتيا على حافة الإفلاس لا حين استلمتها كوليندا ولا قبلها، بل كانت الدولة ولا زالت تمر بظروف اقتصادية صعبة تحاول التغلب عليها بالإصلاحات. هذه الإصلاحات بدأت منذ عام 1999 وآتت أولى ثمارها في 2009 إذ انضمت كرواتيا لدول حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ثم بعد الخضوع للعديد من الإصلاحات والاشتراطات التي أملاها الاتحاد الأوروبي على كرواتيا صارت عضوةً فيه عام 2013.

بدأت كرواتيا في تلقي المساعدات من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ما ساهم في بدء دوران عجلة النمو الكرواتي، لكن ليس بالشكل السحري الذي تم تصويره في وسائل التواصل العربية. ففي 2015 كان

الإنتاج المحلي

1.6%، واليوم في 2018 أصبح 2.5% وفقًا لصندوق النقد الدولي.

كما

يرى البنك الدولي

أنه لا زال أمام الكروات شوط طويل من مواطن الضعف التي يجب معالجتها مثل الديون الهائلة الواقعة على عاتق القطاع العام والخاص على السواء، كما أن كرواتيا ليست دولةً جاذبةً للاستثمار ولا زالت ذات معدل توظيف منخفض. بل إن الصادم أن معدل البطالة زاد من 20% عام توليها للحكم إلى 33%، كما زادت نسبة الفقر المطلق من4.7% عام 2009 إلى 5.1% في 2017.


5. في روسيا من أجل الفريق؟


هنالك عدة جوانب لمونديال روسيا 2018؛ الأول أنه بطولة كروية يهتم بها الكروات، الثاني أنه في روسيا هذه المرة، الثالث أنه قبل انتخابات الرئاسة الكرواتية بعدة شهور. لذا فكأي دبلوماسي جيد فإن كوليندا تسعى جاهدةً لتتصدر الإعلام الكرواتي بصورةٍ بعيدة عن المنصب الرسمي كمحاولة للتقرب إنسانيًا من معارضيها ومؤيديها على حدٍ سواء.

أما عن وجوده في روسيا فبعد التدخل الروسي في جزيرة القرم ونشوب الأزمة الأوكرانية 2014 طلبت الولايات المتحدة من المفوضية الأوروبية دعم كرواتيا ومساعدتها بكافة الصور على بناء محطة تخزين جزيرة كِرك. هذه المحطة تستخدمها الولايات المتحدة في بيع غازها الصخري رخيص الثمن إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي.

ردًا على هذا الدعم شاركت كرواتيا بقيادة الرئيس السابق إيفو يوسيبوفيتش في بناء خط غاز طبيعي يمر بتركيا وألبانيا حتى إيطاليا لتفادي مروره في روسيا. وزاد أن رفضت عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمشاركة في إنشاء خط غاز موازٍ. لكن كوليندا ترى في

بوتين الداعم المثالي

لحملتها والحليف الإقليمي الأكبر الذي قد يساعدها في تحقيق نمو يضمن لها البقاء في الرئاسة عدة أعوام أخرى. يدعّم من تلك الفرضية

تعيين سفير كرواتي

في روسيا مطلع العام الماضي بعد شهور عديدة من خلو مكتب السفارة في موسكو.


6. تعشق الكرة لأجل المتعة؟

الرئيس السابق للاتحاد الكرواتي لكرة القدم دزرافكو ماميتش ورئيس نادي دينامو زغرب متهم في قضايا فساد واختلاس؛ إحداها تشمل نجم المنتخب الحالي لوكا مودريتش، إذ كذب مودريتش في المحاكمة التي جرت في يونيو/ حزيران الماضي ما قيل بشأن بنود عقد انتقاله من دينامو زغرب إلى توتنهام هوتسبير الإنجليزي عام 2008.

من المقرر أن تُستكمل محاكمة مودريتش عقب انتهاء كأس العالم الحالي، أما ماميتش فقد هرب إلى البوسنة والهرسك وحصل على جنيستها ما يمنع تسليمه إلى أي دولة أخرى. ماميتش هو صديق مقرب لكوليندا والراعي الأول لحملتها الانتخابية، وأقام الرجل العديد من الحفلات لرجال الأعمال طالبًا منهم دعم كوليندا. بعد وضعه تحت مراقبة المخابرات الكرواتية تم تسجيل عدة مكالمات هاتفية بينه وبين كوليندا، ومن المتوقع أن يتم الإفصاح عن محتواها في الأيام المقبلة.

كوليندا غرابار – الرئيسة الكرواتية

لذا فلربما يكون إصرار كوليندا على الظهور بتلك الصورة المتواضعة الحريصة على أموال الشعب خطوةً استباقية لما قد تكشفه التسجيلات المتوقعة.


7. باعت الطائرات الرئاسية؟

لا أنكر أنني قابلت السيد ماميتش في مناسبات عديدة. لكن لم أكن أعلم أنه تحت المراقبة، ولقد نظم حفلات عشاء كثيرة.

أشهر ما تردد عنها أنها باعت الطائرات والسيارات الرئاسية تفضيلًا منها للتقشف على الاقتراض، لكن الواقع أن الرئيس الكرواتي لا يمتلك صلاحية القيام بفعل كهذا، كما لم نعثر على أي خبر في أي صحيفةٍ عالمية أو كرواتية محلية يتحدث عن فعل كهذا.

لكن المثبت أنّها رغم النمو البطيء وتردي الأوضاع المعيشية لشريحة كبيرة من سكانها فإنها في مارس/ آذار 2018 قد أقرت بصفتها القائد العام للقوات المسلحة بـ

شراء سرب

مكون من 12 مقاتلة «إف-16» من إسرائيل بمبلغ 500 مليون يورو، رغم أن وزارة المالية الكرواتية قد اقترضت ما يقارب 1.25 مليار يورو في 2017 من أجل سد عجز الموازنة في 2017.

أخيرًا، فإن ما نقله لنا الإعلام العربي هو صورةٌ أسطورية لامرأة حديديةٍ في مجال السياسة، وعاشقةٍ مجنونةٍ لبلادها في مجال الرياضة. تناقل المدونون العرب مقولات كثيرة عن إنجازات قامت بها، فتواترت تلك المقولات حتى صارت حقائق راسخة. ونحن هنا لا نتساءل حول شخص كوليندا، ولا نتصيد لها أخطاءها، إنما نتقصى وراء ما نُشر عنها في الإعلام العربي محاولين الوصول إلى صورة حقيقية لما قامت وتقوم به، وللأوضاع الاقتصادية في كرواتيا قبل رئاستها وبعدها، من أجل إيصال صورة موضوعية للقارئ العربي.