«مصائب قوم عند قوم فوائد» .. هكذا وجدت إيران نفسها أخيرًا وظهرها للحائط في مواجهة العقوبات الأمريكية، ولت وجهها شطر الدب الروسي لتتخلى أمامه عن مطالبها التاريخية، تاركةً له المجال لبسط مزيد من النفوذ على المنطقة في سبيل تحقيق مصلحة مشتركة للطرفين؛ وهي تأمين منطقة بحر قزوين بالكامل من أي وجود عسكري أجنبي، وإزالة الخلافات مع القوى الإقليمية في وسط آسيا، وخلق منطقة آمنة تساندها وقت الشدة، فـ«الجار جارٌ ولو جار» .. هكذا أقنعت الأحداث الإيرانيين بعد 22 عامًا من الشقاق.

شهدت مدينة أكتاو الكازاخية، الأحد الماضي، توقيع اتفاق تاريخي بين روسيا وقادة الدول الإسلامية الأربع التي تشاركها سواحل بحر قزوين؛ إيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانستان، تعهدت الدول الخمسة بأن تحصر بيدها وحدها حقوق استغلال موارد البحر، وألا تسمح بأي وجود عسكري أجنبي تحت أي مبرر، وحددوا نسبة استفادة كل دولة حسب طول شواطئها.

يحوي البحر في أعماقه احتياطات هائلة من الغاز الطبيعي، ويضم ثاني أكبر حقول النفط في العالم، كما يعيش فيه 78 نوعًا من الأسماك، أهمها سمك الحفش الأبيض الذي ينتج الكافيار، والذي يعد أحد أغلى الأطعمة في العالم، إذ يصل سعر الكيلوغرام الواحد من بيض هذه الأسماك إلى 25 ألف دولار أميركي، وتنظم الاتفاقية صيد تلك الأسماك التي أوشكت على الانقراض بسبب الصيد الجائر.

ويعد الرئيس الإيراني حسن روحاني هو بطل الاتفاق إذ أقدم على ما تهيّب سابقوه من القيام به، ووقع على تنازله عن مطالب بلاده بالحصول على نسبة 20% على الأقل من البحر، مكتفيًا بنسبة 13%، برغم الغضب الشعبي من هذه الخطوة وتشبيهها داخل إيران بمعاهدة

تركمانجاي

التي تنازلت فيها إيران عن سيادتها على بحر قزوين لصالح روسيا عام 1828.

اقرأ أيضًا:

إيران: يدٌ تفاوض ويدٌ تصنع السلاح

.

وافق روحاني على مضض على الرضوخ للأمر الواقع بهدف تصفية خلافاته مع روسيا، بعدما وجد بلاده في موقف لا تحسد عليه وتريد حماية ظهرها وتأمين نفسها، ولن تنفعها فيه ما يُطلق عليه «حقوق تاريخية»، ليس لها سند من القوة، فقرر الارتماء في أحضان الدب الروسي والكتلة الآسيوية، ولو كان الثمن الخروج بأقل نسبة من الاتفاق، فـ«عصفور في اليد خير من عشر على الشجرة» كما يقول المثل العربي، لكنه لم يفته أن ينبه على أن تحديد الإطار القانوني لا يغني عن ضرورة عقد اتفاقات أخرى جديدة مع الدول المتشاطئة لترسيم الحدود بشكل أكثر تفصيلًا، آملًا في أن يخرج من تلك الاتفاقات بما لم يستطع أن يظفر به اليوم.


بحر لا بحيرة

بحر قزوين والدول المتشاطئة عليه

تنازلت طهران عن موقفها السابق بالإصرار على التوصيف القانوني لقزوين على أنه «بحيرة» وليس «بحرًا»، إذ إن التوصيف الأول يتيح لجميع الدول المتشاطئة تقاسم ثرواته فيما بينها، أيًا كان موقع تلك الثروات، بينما إذا تم اعتباره بحرًا – وهو ما حدث بالفعل – فستسفيد كل دولة بالثروات التي تقع داخل نصيبها من المياه الاقتصادية، على حسب التقسيم المتفق عليه، وبذلك ستستفيد كازاخستان بشكل كبير من الاتفاق لأن حقل تنجيز الذي يعد ثاني أكبر حقول النفط في العالم، ويضم كميات ضخمة من الغاز، يقع داخل منطقتها.

وقال نائب وزير الخارجية الروسي غريغوري كاراسين إن

الاتفاق

يشير إلى أنه بحر، لكن تمنحه بنود المعاهدة «وضعًا قانونيًا خاصًا»، إذ ستتشارك الدول الخمس في معظم البحر لكنها ستقتسم القاع والموارد الجوفية.


دستور قزوين

لا ترجع أهمية الاتفاق إلى نتائجه المباشرة التي تكاد تكون غير ملحوظة اقتصاديًا الآن، هو تقريبًا تقنين لوضع سابق، فأذربيجان وكازاخستان وروسيا وتركمانستان عملوا طوال الأربع سنوات الماضية على استغلال ثروات البحر وإن كان بشكل محدود بموجب اتفاقات بينية، لكن أهمية الحدث تكمن في أن شرعنة الأوضاع الحالية وتصفية بؤرة التوتر حولت الوضع من نقطة خلاف إلى نقطة تجمع وتكتل لدوله الخمس.

كما أنه يفتح الطريق لتطوير صيغ تعاون اقتصادي وعسكري، كما صرح بذلك الرئيسان الروسي والكازاخي في نفس اليوم، بل اعتبر الأخير «هذه الاتفاقية دستورًا لبحر قزوين، فهي مصممة على حل جميع القضايا المتعلقة بحقوق والتزامات الدول الساحلية، وكذلك تصبح الضامن للأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة».

ومن المتوقع أن يجري التفاوض بعد ذلك على مشاريع لمد خطوط أنابيب الغاز عبر البحر من تركمانستان إلى أذربيجان لتعبر الأراضي التركية وصولًا إلى أوروبا، لاسيما بعد

تغير الموقف الروسي

وتقبله الاعتماد على أنقرة في هذا الأمر.

ويبدو الأتراك مستفيدين من الوضع الجديد، ليس اقتصاديًا فقط بل بالمنظور الجيوسياسي، فإن تَشكل قوة إقليمية بهذا الحجم يوجد لها ظهيرًا قويًا للمناورة مع واشنطن، لاسيما وأن الاتفاق يتزامن مع التوجه التركي للاستدارة شرقًا، وإعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استعداد بلاده للتعامل بالعملات الوطنية في التجارة مع روسيا وإيران والصين ردًا على فرض واشنطن عقوبات اقتصادية على بلاده.

من جانبه أكد الدكتور كمال حبيب، أستاذ العلوم السياسية والخبير بالشئون التركية، أن الاتفاق يفتح مجالًا استراتيجيًا كبيرًا أمام أنقرة فهي تمتلك علاقات قوية مع كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، الذين يجمع بينهم العرق التركي، كما أن إيران وروسيا تعانيان من العقوبات الأمريكية ومن مصلحتهما تطوير تعاون مشترك مع الأتراك.

وأضاف في حديثه لـ«إضاءات» أن الاتفاق تاريخي أنهى نزاعات استمرت لأكثر من 20 عامًا بين هذه الدول، لافتًا إلى أنه يفتح الباب أمامها للوصول إلى صيغة جديدة من التعاون والتنسيق، التي قد تتطور في المستقبل القريب لتنتج شكلًا من أشكال التحالف على غرار حلف الناتو اليوم، مما قد يوجد لتركيا بديًلا مناسبًا عن عضوية الناتو، إلا أنه من المبكر الحديث عن مثل هذا الأمر.

وأشار حبيب إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دونالد ترامب، هي التي دفعت دول بحر قزوين لهذا الاتفاق؛ وليس بعيدًا أن الدور الأمريكي سابقًا كان له تأثير في تعطيل الاتفاق بينهم، لكن واشنطن اليوم فقدت ثقة حلفائها، وسلوكها الجديد هو الذي عزز تنامي النزعات المحلية والإقليمية، ومراعاة العوامل الجيوسياسية بشكل أكبر من ذي قبل.

اقرأ أيضًا:

الصراع الروسي التركي على حلبة القوقاز: من يفوز؟

وتعد الاتفاقية ضربة مؤلمة للنفوذ الأمريكي، فمنذ انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991 بدأت واشنطن في التسلل إلى المنطقة بهدف التنويع في مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على نفط الخليج العربي، ومنع عودة النفوذ الروسي للدول المستقلة حديثًا ومنع الصين من الاستيلاء الاقتصادي على المنطقة والحد من النفوذ الإيراني، وبالفعل جرت محادثات بين حلف الناتو، وكل من أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، لضمهم إلى الحلف لكن الجهود الأمريكية التي استمرت حتى عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، تبخرت اليوم بفعل الاتفاق.


الصين تطل برأسها

بحر قزوين

بحر قزوين

لا تطل سواحل الصين على قزوين، ولم تكن طرفًا في الاتفاق، لكننا لا نبعد كثيرًا إن قلنا إنها من الرابحين، فليس صدفة أن يشهد اليوم السابق على التوقيع، تدشين ميناء جديد على بحر قزوين في مدينة كيروك بكازاخستان ضمن مشروع «طرق الحرير» الصيني. إذ تحتل كازاخستان بمساحتها الشاسعة ومواردها الهائلة مكانة محورية في طريق الحرير، وقد ربطت اقتصادها بالصين وأطلقت مشروعات لتطوير بنيتها التحتية مصممة على مقاس الاستثمارات الصينية الكثيفة التي تتدفق عليها.

اقرأ أيضًا:

الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم

.

وبذلك تبدو الاتفاقية مكملة لدور منظمة شنغهاي التي تقوم على تطوير التعاون بين معظم تلك الدول، إذ إن روسيا وكازاخستان والصين أعضاء مؤسسون، وأذربيجان عضو مراقب بالمنظمة، وطهران تقدمت بطلب الانضمام منذ سنوات لكن العقوبات المفروضة عليها حالت دون استكمال إجراءات العضوية.

ولذا فليس من المبالغة على الإطلاق القول بأن الحدث يمثل خطوة هامة في طريق الألف ميل لتكوين معسكر شرقي جديد، مناهض للهيمنة الأمريكية، تقع موسكو وبكين في القلب منه.