منذ إعلان قيام الحركة الصهيونية العالمية، في المؤتمر الذي عُقد في أغسطس/ آب 1897 في مدينة بال السويسرية، أدرك تيودور هرتزل، المعروف رسميًّا باسم «الأب الروحي للدولة اليهودية»، ضرورة حصول الحركة الناشئة على دعم إحدى القوى الكبرى في العالم من أجل قيام واستمرارية دولته المزعومة، وبالطبع كان المقصد الأول له إسطنبول، حيث كانت فلسطين تابعة للسلطنة العثمانية الغارقة في أزماتها وديونها.

وفشل هرتزل في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين مقابل تسديد ديون السلطنة، بل تزويد الخزينة العثمانية بما يفيض عن حاجتها من المال، رغم شدة إغراء العرض، وإمعانًا في التصدي لهذا المخطط أصدر السلطان عددًا من المراسيم لتشديد الإجراءات الأمنية في فلسطين، لمنع هجرة اليهود، مدفوعًا بعقيدته الدينية التي تعتبر تلك المنطقة وقفًا إسلاميًّا لا يجوز التفريط فيه بأي ثمن.

وفي المقابل لم يزدد هرتزل إلا إصرارًا على مخططه، مدفوعًا أيضًا بقناعاته الدينية التي تعتبر فلسطين أرض الميعاد التي بشر بها الكتاب المقدس، واستطاعت الحركة الصهيونية عبر أذنابها في تركيا تدبير انقلاب ناجح، لخلع السلطان عن عرشه، فيما عُرف تاريخيًّا بـ «واقعة 31 مارت»، وبذلك زالت العقبة الأولى في طريق قيام الدولة اليهودية، ومن ثَمَّ توجه التركيز إلى القوى الأوروبية لتتبنى إحداها المشروع.


من رحم الإمبراطورية العظمى

كان العالم في هذه الفترة يعيش مرحلة التعددية القطبية، وكانت بريطانيا آنذاك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. توجَّه هرتزل إليها، واستطاع بمساعدة يهود لندن نسج علاقات وثيقة مع البرلمانيين والساسة الإنجليز، وعلى رأسهم وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين، وخلق تعاطفًا مع قضيته بينهم.

وفي المقابل كان حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، يتقرب من الحاشية الملكية، حتى استطاع انتزاع «وعد بلفور» في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، مستغلًّا حاجة بريطانيا لدعم أثرياء اليهود، في خضم الحرب العالمية الأولى، ومؤسِّسًا بذلك مظلة حماية قوية للمشروع الصهيوني في فلسطين، وعلى إثر ذلك تدفقت أفواج المهاجرين اليهود إلى أرض الميعاد المزعومة، وشارك الآلاف منهم في الحرب العالمية في صفوف الجيش البريطاني، وحصلوا منه على التدريب والتسليح، فيما عُرف باسم «الفيلق اليهودي» أو «الكتيبة العبرية» التي تم حلها بعد الحرب، وانضم مقاتلوها للعصابات الصهيونية في فلسطين.

ومجملًا سارت الأمور كما تشتهي الصهيونية، إذ تولى البريطانيون مهمة دعم مخططاتهم، وتصدوا لثورة فلسطين الكبرى، التي استمرت من عام 1936 وحتى عام 1939، رغم أن مطالب الثورة بالأساس كانت تركز على الوجود اليهودي وليس البريطاني، لكن مع اقتراب نُذُر الحرب العالمية الثانية خشيت بريطانيا أن تخوض الحرب ضد ألمانيا، وظهرها مكشوف أمام هجمات العرب الذين يشاركون الألمان في عداوة الصهاينة والإنجليز معًا، فأصدرت الحكومة البريطانية ما يسمى بـ «الكتاب الأبيض» في 17 مايو/ آيار 1939، والذي نص على إنشاء دولة فلسطينية في غضون عشر سنوات، وفرض قيود على الهجرة اليهودية لفلسطين، وبيع الأراضي للأجانب، وغيرها من الإجراءات التي اعتبرتها الحركة الصهيونية تخليًا عمليًّا عن وعد بلفور، ومن ثم عارضتها بشدة.


ركوب موجة الصعود الأمريكي

اشتعلت الحرب العالمية الثانية بعد أقل من أربعة أشهر من صدور الكتاب الأبيض، الذي طواه النسيان في خضم الأحداث الكبرى التي ألمت بالعالم في ذلك الوقت، واكتسحت الجيوش الألمانية أوروبا في فترة قصيرة، وفي حين راهنت قيادة المقاومة الفلسطينية على الألمان، وحصلوا منهم على بعض الدعم، كان اليهود تلقائيًّا في صف دول الحلفاء.

وببراعتهم المعهودة أدركوا أن بريطانيا العجوز التي أنهكتها الحرب، ربما لن تستطيع الحفاظ على مكانتها الدولية بعد الحرب حتى لو خرجت منها منتصرة، ونقلوا وجهتهم إلى القوة الفتية الصاعدة، وبدا ذلك جليًا في

مؤتمر بلتيمور

الذي عقد في التاسع من مايو/ أيار عام 1942، في نيويورك، والذي يعد المحطة الهمى في تاريخ الحركة الصهيونية بعد وعد بلفور، وشكل نقطة تحول تاريخية في علاقات الحركة الدولية، فتحول مركزها من لندن إ لى واشنطن، وأصبحت الولايات المتحدة الحاضنة الاستعمارية للمشروع الصهيوني بدلًا من بريطانيا، إذ حضره مندوبو الحركة الصهيونية وعدد من رموز النخبة السياسية الأمريكية، أبرزهم السيناتور هاري ترومان، رئيس لجنة الشئون العسكرية بمجلس الشيوخ.

وبعد اطمئنانهم للدعم الأمريكي القوي، قلب اليهود ظهر الِمجَنِّ للندن، وشنوا حرب عصابات ضد قوات الاحتلال الانجليزي في فلسطين لإجبارها على الرحيل وتسليم البلاد إليهم، ووصلت الصدامات بين الطرفين إلى ذروتها عندما نسفت العصابات اليهودية مقر القيادة البريطانية في فلسطين، في 22 يوليو/ تموز عام 1946، بفندق الملك داود في مدينة القدس.

وفي الولايات المتحدة تولى ترومان منصب الرئاسة بعد ثلاث سنوات من مؤتمر بلتيمور، مدعومًا من الطائفة اليهودية الأمريكية، وهو الذي أصدر قرار الاعتراف بإسرائيل بعد إعلان قيامها في 14 مايو/ آيار عام 1948، بعد 11 دقيقة فقط من الإعلان، رغم معارضة مسئولي وزارة الخارجية الذين خشوا على انعكاسات القرار على المصالح الأمريكية في المنطقة العربية.

بالطبع لم يكن مؤتمر بلتيمور بداية القصيدة، بل كان نتاجًا طبيعيًّا لسنوات من العمل الدءوب والوجود القوي للحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، فالكونجرس أصدر قرارًا أيد فيه وعد بلفور قبل ذلك بعشرين عامًا، وكانت هناك نخبة يهودية مؤثرة في القرار الأمريكي، والظروف مواتية لهذا التوجه الذي بات أكثر وضوحًا مع تزايد النفوذ الأمريكي في المنطقة حتى أصبح تعهدًا استراتيجيًّا أمريكيًّا برعاية إسرائيل وحمايتها.

دعمت الولايات المتحدة تل أبيب بالمال والسلاح أثناء حروبها ضد الدول العربية، وتكفلت بأن تضمن لها تحقيق التفوق الاستراتيجي والعسكري على جميع دول الشرق الأوسط، بالإضافة للمساعدات المباشرة، منذ قيامها وحتى الآن والتي تزيد على 130 مليار دولار.

وبعد دخول الاتحاد السوفييتي حالة الاحتضار عام 1991، وبداية مرحلة تفرد واشنطن بزعامة العالم، وفي غمرة الانقسام العربي بعد حرب الخليج الثانية، أراد الأمريكان تسوية القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، فانعقد مؤتمر مدريد، الذي أطلق ما يسمى بـ «عملية السلام»، ما فتح المجال لعدد من الدول التي كانت تتضامن مع العرب، لإقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب بعدما رفع أصحاب القضية الحرج عنها، كالصين التي كانت تعلن أنها «لن تعترف بإسرائيل حتى لو اعترف بها الفلسطينيون».


الوصول للدعم الصيني لم يكن سهلًا

في الحقيقة كانت بكين تقيم علاقات سرية مع تل أبيب منذ نهاية السبعينيات، فبعد موت ماو الذي كان ينحاز للحركات التحررية الثورية حول العالم، وتولي دينج شياو بينج قيادة البلاد، اعتمد المنهج البراجماتي في علاقاته الخارجية، وأقر خطة لتطوير البلاد كان تحديث الجيش أحد محاورها الأربعة، وحينها كانت علاقاته فاترة مع كل من واشنطن وموسكو، فوجد نفسه مدفوعًا لإسرائيل، التي كانت مستعدة لفتح ذراعيها لأي قادم، طالما يصب في مصلحتها، ومثلت العلاقة منفعة مشتركة للطرفين، وكان الجيش الصيني شديد التعطش للتكنولوجيا العسكرية بعد أدائه الضعيف في الحرب الفيتنامية عام 1978.

وأعطت تل أبيب زبائنها الجدد ما يشتهونه، بعلم واشنطن في البداية، لكن العلاقة بينهما تجاوزت حدودها ووصلت إلى المستوى المحرم أمريكيًّا، حيث أمدت الصينيين بتكنولوجيا فائقة، مست هيبة ردع الولايات المتحدة في وسط وجنوب آسيا، مما سبب توترًا في العلاقة مع تل أبيب ما لبث اللوبي اليهودي في واشنطن أن محا آثاره.


صهاينة متصينون

وفي المقابل سعت تل أبيب لخلق نخبة صهيونية في الصين، من خلال العمل على عدة محاور، أهمها هو خلق جالية صهيونية في الصين تحمل عبء القضية، وتعمل ككتيبة متقدمة للدفاع عن الرؤى الإسرائيلية، ونصرتها، وكانت المشكلة هي عدم وجود طائفة يهودية هناك، على غرار الحالة الأمريكية أو البريطانية. فبدأ العمل على اصطناع تلك الطائفة وإيجادها لتقوم بالدور المطلوب في خدمة المشروع الصهيوني، ونقَّب الباحثون الإسرائيليون عن أي صلات سابقة لأي فرد يهودي أقام بالبلاد، في أية مرحلة تاريخية ماضية، وبالفعل وجدوا أن عائلة يهودية سبق أن أقامت في منطقة كايفنج، بمقاطعة تسمى «هينان» أو «خنان» شرق الصين، ومن هنا كانت البداية.

بدأ الإسرائيليون في البحث عن أحفاد تلك العائلة في أنحاء الصين، وتواصلوا معهم، وقدموا لهم الدعم والمساعدات ونظموا صفوفهم بالرغم من قلة عددهم الذي قد لا يتجاوز عدة مئات، وأقنعوهم بضرورة العودة إلى جذورهم اليهودية القديمة، وإعادة تعريف أنفسهم كيهود وصهاينة، وتم استقدام بعضهم إلى تل أبيب ومنحهم الجنسية، وتطوع عدد منهم في الجيش الإسرائيلي.

واحتل عدد من اليهود مناصب رفيعة في الصين، مثل إسرائيل أبشتاين وسيدني شابيرو، عضوي المجلس الاستشاري الصيني، وهو أحد الهيئات المسئولة عن توجيه السياسات الداخلية والخارجية للبلاد.

وتؤكد الدكتورة نادية حلمي، أستاذ العلوم السياسية بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة بني سويف، أنه برغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية بالأساس، لكن تم تجاوز تلك النقطة في الصين تحديدًا، حيث تعمل المنظمات الصهيونية العالمية مثل منظمة «شافي إسرائيل» على تهويد الصينيين، حتى أصبح عدد أتباعهم بالآلاف، لاسيما بعد إقبال اليهود على الزواج من الفتيات الصينيات، بعد اعتناقهن للديانة اليهودية، لإنجاب جيل صيني صهيوني، بالترافق مع نشر المدارس اليهودية بالمراحل التعليمية المختلفة، وتشييد معابد يهودية على الطراز الكونفوشيوسي فى عدد من المقاطعات.

وتضيف في حديثها لـ إضاءات أن السفارة الإسرائيلية في بكين تبذل مساعي مكثفة لحث الحكومة الصينية على الاعتراف بهم رسميًّا، بعدما أعيد تفسير تسمية عدد من العائلات الصينية بأنها مقتبسة من الكتاب المقدس، فعائلة «نوآي» مثلًا قالوا إن اسمها في الأصل «آدم» لكن حُرف اسمها بمرور الزمن، وعائلة «نولي» هي ليفي، وهكذا!

وتشير حلمي إلى أنه على صعيد التأثير على نخب صناع القرار في الصين فإن تقديم المشورة فى مجال السياسات الخارجية، سواء فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط أو غيرها، يعهد بها إلى الأوساط الأكاديمية التي تقدم الرؤية التي تتحرك الدولة على أساسها، وقد قطع الإسرائيليون أشواطًا واسعة في هذا المجال، فالتعاون الأكاديمي بين الطرفين على أعلى مستوى، وتم إنشاء مراكز دراسات ومشاريع بحثية مشتركة عديدة، وإنشاء أقسام للغة العبرية والثقافة اليهودية، في عدد من الجامعات الصينية، وتسهيل سفر الباحثين الصينيين لإسرائيل، وتنظيم مسابقات بحثية دورية في إقليم كايفنج، ذات جوائز قيمة للباحثين الذين يتناولون التاريخ والثقافة اليهودية.

وقد افتتحت إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي،

جامعة

في مدينة شانتو بالصين وبذلك تصبح الدولة الثانية في العالم التي تقيم جامعة أجنبية هناك بعد روسيا، كما تجرى الآن في إسرائيل تربية وإعداد حاخامات صينيين، ليقودوا الطائفة المنشأة حديثًا هناك.


زواج صنع في الجنة

وبعكس العلاقات مع البريطانيين أو الأمريكان الذين ينتمون إلى الحضارة المسيحية، وتجمعهم مع اليهود بعض الاعتقادات الدينية المشتركة، اتسمت العلاقة مع الصين بكونها براجماتية بحتة، فاليهود يأملون في التحالف مع الدولة التي باتت المنافس الأكبر لواشنطن على زعامة العالم، وربط مصالحها بدولتهم اللقيطة، لضمان حمايتها لهم، لاسيما وأنها إحدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتمتلك حق الفيتو، كما تجد بكين في تل أبيب مصدرًا غاية في الأهمية للتكنولوجيا الدقيقة، وتدرك مدى عمق تأثير النفوذ اليهودي في الدول الغربية ولا سيما في الولايات المتحدة.

وقد شهدت العلاقات بين الحزب الشيوعى الحاكم في الصين وحزب الليكود الصهيوني تقاربًا متسارعصا، لاسيما في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف العلاقة مع بكين بأنها «

زواج صنع في الجنة

» خلال زيارته لها في العام الماضي، احتفالًا بذكرى مرور 25 عامًا من إقامة العلاقات الدبلوماسية، فقد أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في آسيا، وثالث أكبر شريك تجاري في العالم.

ووقع نتنياهو في تلك الزيارة وحدها 25 اتفاقية تجارية بقيمة ملياري دولار، وهذا رقم صغير بالنظر إلى حجم التجارة بين الطرفين الذي يصل إلى

25 مليار دولار

بحسب التقديرات المعلنة، ففي الشهر الماضي فقط تم توقيع ثماني اتفاقيات جديدة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والعلوم الحياتية والإبداع والصحة الرقمية والزراعة.

واليوم يضطلع الصينيون بمشاريع ضخمة في مجال البنى التحتية، داخل الخط الأخضر، بل إن بكين أدخلت تعديلات على مشروع طريق الحرير ليمر عبر الكيان الصهيوني، واشترت امتياز استثمار مينائي حيفا وأشدود على البحر المتوسط، الأمر الذي أحدث قلقًا لدى العسكريين الأمريكان، ووصفوا إسرائيل بأنها «

فقدت عقلها

»؛ لأنها بذلك تجعل الأسطول السادس الأمريكي المتمركز في شرق المتوسط تحت أعين ألد غرمائه.

اقرأ أيضًا:

الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم

وسوف تتسلم «مجموعة شانغهاي الدولية» ميناء حيفا لمدة 25 عامًا، الأمر الذي يجعل الميناء بمثابة قاعدة صينية متقدمة بالمنطقة، ويؤثر سلبًا على مكانة إسرائيل كقاعدة عسكرية استراتيجية للبحرية الأمريكية، التي لن تكون قادرة على الاعتماد على الميناء بعد سيطرة الصين عليه، مما يعكس رغبة تل أبيب في تخفيف اعتمادها الاستراتيجي على واشنطن.

ومع اشتعال المنافسة الضارية بين الصين والولايات المتحدة تتجاهل إسرائيل عمليًّا هذه المعركة الدائرة، رغم العلاقة الخاصة التي تجمعها بها، بل إن القلق بات يساور الأمريكان من وصول التقنيات العسكرية المتطورة إلى أيدي الجيش الصيني عبر تل أبيب.

وفي الوقت الذي تسابق فيه بكين الزمن لتجاوز الولايات المتحدة والحلول محلها كقوة عظمى مهيمنة على النظام الدولي، يسابق اليهود الزمن أيضًا لتوثيق علاقتهم بهذه القوة الصاعدة، استباقًا للتغيرات المرتقبة في مواقع القوى في النسق الدولي.