بلغة عربية فُصحى عرجاء، وعلى خلفية عدد من أعلام الدول الراسخة، وقفت د. نادرة عواد ناصيف في مدينة أوديسا الأوكرانية أمام الكاميرات، الخميس، الخامس من سبتمبر/ أيلول، لتُعلن تأسيس دولة عربية إسلامية جديدة على الحدود بين مصر والسودان، الأمر الذي أثار موجاتٍ واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين لم يعِره المجتمع الدولي أدنى انتباه، فماذا يحدث؟ وما دلالاته؟

هي مملكة الجبل الأصفر، كما تسميها حكومتها الوليدة. لكن المملكة، التي لا نعرف اسم ملكها على وجه الدقة بعد، اكتفت منذ تأسيسها بتحركاتٍ محض إعلامية لا تأثير واقعي لها. وبالإمساك بالخيوط القليلة المتوفرة من المقاطع والمنشورات الرسمية التي تُصدرها الحسابات الرسمية للمملكة، والتغطية الإعلامية الشحيحة، يبدو تأسيس مملكة الجبل الأصفر بعيدًا عن شبهات المؤامرة المُحيطة بِه، المتوقع استثارتها نظرًا للإعلان المفاجئ عن تأسيس المملكة وتأخر الكشف عن هوية مؤسسيها وعائلتها الملكية.

يُعد الجبل الأصفر أقرب إلى مشروع سياسي دولي مثالي، يَعتبر تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة مجرد وسيلة لإنهاء الشتات العربي، وحل أزمة اللجوء والهجرة وكتم القيد، عبر استغلال أجهزة الدولة في تجنيس المحتاجين وتوفير بيئة تحميهم من أشكال التمييز وتضمن حرياتهم السياسية والاجتماعية، غير أن النُبل الظاهر للغاية يُصاحبه فقرٌ شديد في الوسائل التي قد تُسهِم في نجاح المشروع على أرض الواقع، من حيثُ التمويل، والرؤية، واعتبارات جيوسياسية أخرى.


بير طويل.. أرض لا أحد

خريطة توضيحية للأرض المختارة لقيام مملكة الجبل الأصفر عليها.

الأرض التي أعلنت ناصيف قيام دولتها الجديدة عليها، هي رقعة الأرض المعروفة ببير طويل أو مثلث بارتازوجا، البالغة مساحتها 2060 كم مربع (أصغر قليلاً من محافظة المنيا)، وتقع بين الحدود المصرية والحدود السودانية.

ربما يبدو من
الغريب أن تمتنع مصر والسودان عن مُعارضة قرار تأسيس دولة تقع في المنطقة الحدودية
بينهما، مما أسهم في تعزيز التكهنات حول كون المملكة تأسست بضغطٍ من قوى خارجية
بغرض تفكيك المنطقة وزعزعة استقرار مصر والسودان وربما الشام. لكن العجب يبطُل حين
يتضح أن الدولتين أحجمتا عن فرض سيادتهما بسبب خلافٍ على تعيين الحدود متعلق
بمنطقتي حلايب وشلاتين.

باختصار، تتمسك مصر باتفاقية الحكم الثنائي للسودان، التي وقعتها مع بريطانيا في 1899، وتنص على تعيين الحدود الجنوبية لمصر خطًا مستقيمًا على دائرة عرض 22 شمالاً، ما يجعل مثلث حلايب وشلاتين في الجنوب الشرقي ضمن الأراضي المصرية، ويخضع المثلث، الذي يستمد اسمه من جبل بارتازوجا، للسيادة السودانية. لكن السودان من جانبه يدفع باتفاقية إدارية وقعها مع الجانب المصري في 1902، ينحدر الخط المستقيم بموجبها جنوبًا حتى جبل بارتازوجا، ليضم مثلث بارتازوجا إلى الأراضي المصرية، ثم يصعد الخط شمالاً بزاوية مائلة ليضم السودان حلايب وشلاتين. ومن ثمَّ، ستعني مطالبة أي من الطرفين بالسيادة على مثلث بارتازوجا صغير المساحة معدوم الموارد الطبيعية أن يتخلى ذلك الطرف عن مثلث حلايب وشلاتين الذي تبلغ مساحته عشرة أضعاف مثلث بارتازوجا، ويقع على ساحل البحر الأحمر.

أدى هذا الموقف، إضافةً إلى خلو المنطقة من أي سكان دائمين، إلى أن تصبح بير طويل أرضًا مباحة، أو لا صاحب لها (

terra nullius

)، ما يعني بموجب القانون الدولي أن رقعة الأرض هذه يمكن احتلالها وإعلان السيادة عليها من جانب أي دولةٍ قائمة بالفعل، أو دولة جديدة تنشأ فور إعلان السيادة.

استغلت مملكة الجبل الأصفر هذا الخلاف القانوني في تقديم حجة قانونية لأحقية مؤسسيها في إعلان السيادة عليها، وهو سلوكٌ معروف تنضم به مملكة الجبل الأصفر إلى نحو 70 دولة [

مجهرية

] حول العالم استغل مؤسسوها ثغرات قانونية مشابهة. المصطلح، كما يشي، يصف دولًا صغيرة المساحة وقليلة السكان، ولا تحظى باعتراف أي دولة ذات سيادة أو منظمة دولية.

شهد بير طويل، قبل تأسيس الجبل الأصفر، رفع عددٍ من أعلام الدول الجديدة، منها ما كان بقصد المغامرة، مثلما

فعل جاك شينكر

، مُراسل الغارديان في مصر عام 2010، ومنها ما كان مجرد

هدية لطيفة من أبٍ أمريكي

نصب نفسه ملكًا على بير طويل من أجل ابنته الراغبة في أن تصبح أميرة في 2014، مرورًا بـ «مملكة ديكسيت»، لصاحبها الهندي الشاب،

الملك سوياش الأول

.

الحكومة الغامضة

لا نعرف الكثير عن حكومة الجبل الأصفر، سوى بتجميع بعض قصاصات من حساباتٍ [رسمية] عدة للمملكة على مواقع التواصل؛ الحساب الرسمي

للتعريف بالمملكة

، وحساب رئيسة الوزراء

د. نادرة ناصيف

(المنفصل عن حسابها الشخصي على تويتر)، و

حساب وزارة الخارجية

، و

حساب ناطق بالإنجليزية

. وتقتصر غالبية نشاط هذه الحسابات على إعادة تغريد ما كتبته الحسابات الأخرى وتغريدات من حسابات تابعة للأمم المتحدة، هذا بالإضافة إلى قناة على منصة يوتيوب، وموقعين إلكترونيين قيد الإنشاء للمملكة ووزارة خارجيتها.

في المقطع، تقول ناصيف إنها تتحدث «نيابةً عن جلالة الملك، ملك مملكة الجبل الأصفر»، لكنها تمتنع عن ذِكر اسمه، ولم نستطع التوصل إلى مصدرٍ موثوق يحدد اسم الملك.

يتداول البعض

اسم عبد الإله بن عبد الله بن وُهيم، وتذهب مصادر أخرى إلى أن اسمه

فوزي السعود

، أمريكي من أصلٍ سوري.

أما ناصيف، رئيسة مجلس وزراء المملكة الوليدة، فلا تتوافر عنها الكثير من المعلومات أيضًا. هي أمريكية من أصل لبناني، حاصلة على درجة الدكتوراه في التعليم الدولي، ومتخصصة في ثقافة السلام، وتغلب عليها الخلفية البحثية بوضوح في مقابل الخبرة السياسية الفعلية.

ويبدو تاريخها في العمل السياسي خاليًا إلا من واقعة في 2016

أعلنت

فيها تنسيقية تيار المستقبل (التيار اللبناني بقيادة سعد الحريري) في ميشيغان الأمريكية تنصلها من ناصيف ونزع الصفة التنظيمية عنها منذ 2009، ومع ذلك تدَّعي ناصيف أنها المؤسس لتنسيقية المستقبل، وتتناسى أنه لا صفة تنظيمية لها، وفقًا للبيان. وقد ظهرت نادرة في عدة حوارات مرئية ومسموعة،

وعبرت عن تأييدها الجارف

لرؤية السعودية 2030 وبرنامج ولي العهد محمد بن سلمان في 2017.

أمَّا الحقائب الوزارية، فكل ما يرِد على حسابات التواصل الاجتماعي هو أسماء متفرقة للوزراء دون أي بيانات إضافية، بعضها يتم حذفه بعد ساعات من نشرِه. ما بقي حتى الآن هو اسم د. محمد السبيعي، وزير الداخلية، الذي يرد اسمه في تغريدة يوجه فيها بتنشيط نظام الجنسية والبدء في استقبال طلبات الراغبين بالمواطنة.


تشير هذه التفاصيل إلى أن المناقشات والمفاوضات حول تأسيس حكومة دائمة للمملكة ما زالت إلى حدٍ بعيد في مهدها، ما يصعِّب انتقالها من مصاف الدول المجهرية إلى الدول المعترف بها جزئيًا، فمن أهم مقومات الدولة قدرتها على إقامة علاقات بالدول الأخرى ذات السيادة. ومع أن حسابات المملكة تنشر بين الحين والآخر تهنئات لحكومات ودولٍ، وتُعلن مشاركتها في مؤتمر دولي أو آخر، فإنها لم تتلقَّ أي مخاطبة رسمية علنية من أي حكومة أجنبية، فضلًا عن الاعتراف بها دولةً ذات سيادة، وهو أمرٌ غير متوقع حدوثه في أي وقتٍ قريب.

أرضُ سلامٍ للجميع

بعد تمدد الدول
ذات السيادة وتوغلها وإطباقها على السواد الأعظم من البر عقب الحرب العالمية
الثانية، اكتسبت الأرض المباحة جاذبية لأصحاب المشاريع السياسية المثالية. في رد
فعلٍ على فشل الدول القائمة في تحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية، توفر الأرض
المُباحة صحيفة بيضاء يمكن البدء منها من جديد (حسب اعتقادهم)، والانطلاق متحررين
من قيود العقبات السياسية المحلية والدولية، ومتجاوزين معارك الوصول إلى السلطة
داخل بلدانهم الأم، لينتزعوا عصا السيادة السحرية التي ستمنحهم كافة السلطات داخل
أرضهم، وتمكنهم من التأثير على مجريات الساحة الدولية.

يعكس هذا التصور، بالطبع، سذاجة كبيرة من جانب أصحابه، وفهمًا قاصرًا لمجريات السياسة الدولية. وقد ظهرت أماراته في خطاب القائمين على تأسيس المملكة من عدة أوجه. فالمقطع التعريفي المنشور في أواخر أغسطس/ آب يقدم حجة قانونية خالصة تستند إلى اتفاقية مونتفيديو لحقوق وواجبات الدول، الموقع في عام 1933، والنظرية التقريرية التي أرساها في منح الدول ذات السيادة صفة الدولة متى اكتملت أركانها: الأرض، والشعب، والحكومة، وإمكان إقامة علاقاتٍ بالدول الأخرى. والنقطة الأخيرة تحديدًا هي ما ينقص أغلب الدول المجهرية، ويجعل النظرية التقريرية عصية على التطبيق واقعيًا في مقابل النظرية التأسيسية، التي تشترط اعتراف الدول الأخرى أولًا باعتباره ما يُضفي شرعية على تأسيسها ووجودها.

أما عن أهدافها المعلنة، فقد أخذت المملكة على عاتقها مهمة ضخمة، وهي توفير حلٍ لمشكلة المهجرين واللاجئين والمحرومين من الجنسية. ولم يخفَ على مؤسسي المملكة أن خبر تأسيسها وإعلانها ذلك الهدف المثير للجدل سيؤدي إلى ربطها فورًا بصفقة القرن، والمحاولات الإسرائيلية المضنية بتعاونٍ عربي لإخلاء قطاع غزة من الفلسطينيين وترحيلهم إلى منطقة أخرى. لذا حرص المقطع التعريفي بالمملكة على التشديد على موقف حكومتها من القضية الفلسطينية، وهو موقفٌ متمسك بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر عام 1948، ويكفل حق العودة للاجئين الفلسطينيين.


لا نعرف ملامح ذلك الحل الذي تسعى المملكة إلى تطبيقه، لكن أداةً مهمة في جعبة أغلب الدول المجهرية تتمثل في قدرتها على تجنيس المتقدمين للحصول على جنسيتها، ومن ثمَّ توفير الملجأ لهم على أراضيها، والحماية لهم في الخارج باعتبارهم مواطنيها. وهنا تظهر بوضوح مشكلتان: الأولى، أن الاعتراف بجنسية حامل الدولة في الخارج يقتضي أن تكون دولة مُعترفًا بها وبحكومتها، وهو اعترافٌ لا يمنحه المجتمع الدولي بسهولة للدول الناشئة، وبالأخص الدول المجهرية.

أما الثانية، فما يمكن أن ينشأ من صعوباتٍ في مرحلةٍ لاحقة في إدارة ما قد ينشأ من خلافات بين طوائف اللاجئين والمهجرين الذين تسعى المملكة إلى توطينهم فيها، باعتبارها مفتوحةً للمضطهدين من جميع بقاع العالم العربي. لا يُمكن أن تستمر المملكة دون تكوين هوية وطنية متمايزة عن الهوية الإسلامية العربية الجامعة التي تحاول تبنيها في مراحلها الأولى، ما سيعرقل بالتأكيد عمليات التجنيس، ويحولها إلى مجرد دولة وطنية أخرى.

ليس هذا فقط، بل يظهر تأثير خلفية نادرة التعليمية بوضوح في خطابها خلال المقطع، الذي تروج فيه لحلٍ سلمي لمشكلة النازحين في مرحلة ما بعد الحرب، وتؤكد أن دولة الجبل الأصفر ستعتمد «التعليم كمدماك أساسي لبنائها، فمن خلال التعليم سنبني الاقتصاد، وسنعلم أبناءنا كيف يكونوا صناعًا للسلام». وهو خطابٌ شعبوي عام يبين الأهداف النهائية، لا يرقى إلى أن يكون برنامجًا مفصلًا لسياسات الدولة. كما أن تغريدات متعددة من ناصيف عن اهتمام المملكة بالعمل البيئي والتغير المناخي تُشبه إلى حدٍ كبير خطاب أغلب الدول المجهرية الناشئة، الساعية إلى تقديم نفسها كبديلٍ أكثر إنسانية ومراعاةً للبيئة وتحديات المستقبل من الدول القائمة، متناسية ما يمثله هذا من عراقيل مبكرة للغاية قد تحول دون النمو الاقتصادي.

يظل سؤال الموارد من أصعب الأسئلة التي ستواجه المملكة، فمثلث بارتازوجا منطقة فقيرة ليس من المأمول أن تحوي موارد طبيعية ذات قيمة، وهي بعيدة عن ساحل البحر الأحمر. كل المتاح لها الآن قد لا يتجاوز آبار المياه الجوفية التي ستوفر مياهًا صالحة للشرب، وفقًا لحسابات المملكة. ونظرًا للأهداف السياسية الطموحة التي تسعى إلى تحقيقها، فإن الاكتفاء الذاتي ضرورة لحماية مملكة الجبل الأصفر من تحولها إلى مجرد مخيمٍ كبير مدفوع الأجر للاجئين والنازحين، تتحكم فيه هبات الدول الكبرى ودول المنطقة النفطية. وفي ظل فقر مواردها، واعتمادها الحالي على تمويلات «العرب المهتمين بتوفير أماكن للنازحين»، لا أمل لحكومة المملكة أن تتمتع باستقلالية قراراتها واستدامة مشروعها السياسي. والتصريحات السابقة الموالية للسعودية من جانب ناصيف، وإقامتها لمدة طويلة في الولايات المتحدة، تعززان ذلك التصور عن تبعية المملكة الجديدة للمحور الأمريكي، وأنها ستصبح مجرد أداةٍ في مشاريع سياسية غربية يجري تحقيقها في المنطقة.

ما زلنا في انتظار مؤتمر لم يتحدد تاريخه بعد، سيخرج فيه «ملك مملكة الجبل الأصفر، حفظه اللّٰه تعالى، وعدد من أعضاء الدولة في مؤتمر ومنتدى أمام الصحافة العالمية خلال أيام للحديث بشكل مفصل عن الدولة وطرح كافة الملفات المتعلقة به»، وفقًا لرئيسة الوزراء. لكن المُعطيات الأولية تستبعد احتمالية كون المملكة جزءًا من مؤامرة كبرى أو الخطة الإقليمية الأوسع المعروفة بصفقة القرن، وتميل إلى كون المملكة مجرد محاولة أخرى لاستغلال ثغرات النظام الدولي لإقامة دولة مجهرية، من غير المتوقع أن يدوم عمرها أكثر من مملكة ابنة المزارع الأمريكي الصغيرة.