شهد لبنان انتفاضة شعبية ضخمة انطلقت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.

من بين كثيرين من المثقفين المفكرين الذي هولوا أو هونوا من تلك الانتفاضة، كان للمفكر والمؤرخ وأستاذ العلوم السياسية فواز طرابلسي نظرة أبعد وأعمق للأزمة بأسبابها ومآلاتها، وهو ما حاولنا التعرف إليه في هذا الحوار.

وفواز طرابلسي هو مناضل ومفكر يساري، بدأ حياته بتأسيس مجموعة «لبنان الاشتراكي» في الستينيات، كمجموعة ماركسية نقدية تتجاوز الخط الشيوعي الرسمي. لاحقًا، أكمل طرابلسي دراسته العليا في فرنسا وحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ. من أعماله «تاريخ لبنان الحديث» (رياض الريس للنشر، 2008)، «الطبقات الاجتماعية والسياسية في لبنان» (الساقي، 2015)، «سايكس بيكو بلفور: ما وراء الخرائط» (رياض الريس، 2019). كما ترجم أعمالًا هامة من أبرزها: «10 أيام هزت العالم» للصحفي الأمريكي جون ريد عن الثورة البلشفية الروسية 1917 (منشورات المتوسط، 2018).

وصفت انتفاضة 17 أكتوبر بأنها لحظة غير مسبوقة في تاريخ لبنان، فهل شهد لبنان انتفاضات شعبية مماثلة تاريخيًّا؟

انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول غير مسبوقة في تاريخ لبنان بما هي حركة شعبية سلمية تغطي القسم الأكبر من البلاد. السابقة الوحيدة، الأكثر تواضعًا وإن تكن ليست قليلة الوقع، هي الإضراب السياسي العام سنة 1952 الذي أدى إلى تنحي بشارة الخوري، أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال. وهي غير مسبوقة قياسًا إلى الحراك الشعبي للعام 2015 الذي اقتصر على مدينة بيروت.

الحراك الشعبي الحالي موجه بالدرجة الأولى ضد النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي الذي تأسس بعيد الحرب الأهلية (1975-1990)، وقام على شراكة بين زعماء ميليشيات الحرب وقادة الأحزاب الطائفية والمسيطرين على السلطة الاقتصادية من مصرفيين ومستوردين وعقاريين. فيه ساد الاستغلال الفاضح للنفوذ السياسي والتربُّح الشخصي، على حساب المال العام، تجري تغطية منوعات الفساد والهدر بالولاءات الطائفية والمذهبية.

لدينا الآن اقتصاد متضخم الأوجه الريعية، يستورد عشرة أضعاف ما يصدر، مع ما يستتبع ذلك من عجز في ميزان المدفوعات يضاعف منه دين عام متراكم أصلًا جراء الإنفاق والهدر على مشاريع إعادة الإعمار. والحصيلة اقتصاد ينتج العاطلين عن العمل وسوق شديدة التمركز الاحتكاري. والنتائج الاجتماعية: نمو الفوارق المناطقية والطبقية، وتدهور في مستوى معيشة ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة، جراء احتكار المواد الغذائية والدواء والمحروقات وضمور خدمات الدولة، وخصخصة التعليم العالي والاستشفاء وإهمال نظام الضمان الصحي الذي لا يغطي أكثر من نصف اللبنانيين.

أبرز مستجدات هذا الحراك أولًا، شموله القسم الأكبر من المناطق اللبنانية.

ثانيًا، اهتزاز العلاقة بين أحزاب السلطة وأقسام من جماهيرها. وكان باديًا بالدرجة الأولى بين قواعد حزب الله وحركة أمل، ما دفع هذا وتلك إلى سحب المناصرين من الساحات منذ الأيام الأولى لبدء الحراك. وقد عنى ذلك ضعف مشاركة المناطق الواقعة تحت نفوذ حزب الله وحركة أمل في الجنوب ومنطقة بعلبك-الهرمل.

ثالثًا، حضور النساء الوازن والمستجد من خلال تنظيمات وجمعيات خاصة بهن، تطرح مطالب نسوية مباشرة ضد العنف والتحرُّش والتمييز الفاضح ضد النساء في التشريعات الدينية والمذهبية، ومن أجل حق الأم اللبنانية المتزوجة من غير لبناني أن تنمح أولادها الجنسية اللبنانية.

رابعًا، الحضور العارم للطلاب والشباب في الحراك، يعلنون رفض الخضوع لابتزاز «عودة الحرب» الذي طالما أرهب آباءهم، مطالبين بحق العمل في لبنان ضد سياسة تهجير الشباب، محتجين على المناهج البالية وكتاب التاريخ المدرسي خصوصًا؛ وداعين إلى إعطاء الأولوية للتعليم الرسمي وتطويره على كافة المستويات.

من أبرز أزمات الحراك عدم التنظيم والافتقار إلى القيادة، حتى ظهر الأمر وكأنه غياب للسياسة داخل الحراك؛ فما هي الأسباب؟ وهل توجد فرصة حقيقية ومنظورة لتنظيم هذا الحراك؟

يعيش الحراك مفارقة عميقة بين ما أتاحه هذا الانفجار الشعبي العارم من طموحات وآمال في التغيير الجذري، السياسي خصوصًا، من جهة، وبين ما يستطيع تحقيقه، خصوصًا في وضع بلد على شفير الإفلاس تنخفض قيمة عملته الوطنية وتفرض مصارفه قيودًا صارمة على سحب الودائع وحرية صرف العملة، وتتصاعد موجة إفلاس في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فيما ترتفع معدلات غلاء المعيشة تقابلها حملة واسعة لصرف العمال والأجراء والموظفين.

يرفع الحراك مزيجًا من الشعارات والدعوات المتفرقة بل المتناقضة، بين الشعار المطلق بإسقاط النظام ومطالب إصلاحية، أو من عنديات السياسة اللبنانية التقليدية. شعار «كلن يعني كلن» موروث من حراك 2011 و 2015، يشدِّد على تحميل جميع أفراد الطبقة الحاكمة المسؤولية عن الفساد. لكنه في الحراك الحالي، انزاح ليعني «إسقاط» الرموز الثلاثة للحكم – رؤساء الجمهورية والوزراء ومجلس النواب – وقد شجَّعت على ذلك استقالة حكومة سعد الحريري فتوجَّه قسم من النشاط من تظاهرات وإقفال طرقات وغيرها نحو «إسقاط» الرمزين الباقيين من الترويكا الحاكمة.

في الآن ذاته، طُرِح في الحراك شعار في مورد آخر تمامًا هو المطالبة بحكومة من الاختصاصيين (التكنوقراط) المستقلين عن الأحزاب. وهو شعار لا يكاد يختلف كثيرًا عن مطلب سعد الحريري بحكومة تكونقراط يقصي بموجبها باقي أطراف السلطة.

في إجابة مباشرة على سؤالك: لست أفهم ما الذي تعنيه بـ «غياب السياسة». الطاغي في هذا الحراك، كما هو وارد أعلاه، هو فائض السياسة، لا غيابها. وأعني بالسياسة الصراع على السلطة، وأعني السياسوية، أي المنظور السياسي إلى الأمور بإغفال سائر المقاربات الاقتصادية والاجتماعية.

ثم إن النزاع المحتدم داخل أحزاب السلطة، هو النزاع الدائر بين صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات رئيس مجلس الوزراء والتنافس على حصص تمثيل الكتل البرلمانية في الحكومة، وقد نجمت عنه أزمة وزارية لا تزال تتوالى فصولًا.

أما بالنسبة لقوى الحراك، فأود الرد بسرعة على من يمجِّد العفوية، ويستنجد بالانتفاضات في سائر العالم للقول إن انعدام التنظيم هو الطابع الغالب على الموجات الجديدة من الثورات ضد النيوليبرالية.

ينطلق الحراك في لبنان في وضع يتَّسم بضمور الأحزاب العابرة للطوائف، وفي غياب كامل للحركة النقابية التي استبقت الطبقة الحاكمة ضرورة لجمها واستتباعها، فسيطرت على الاتحاد العمالي العام وفتتته إلى اتحادات ونقابات مستتبعة حزبيًّا وطائفيًّا بحيث بات أشبه بقوقعة فارغة. ومُلفت أن الاتحاد العمالي العام لم يُدلِ بأي موقف منذ بداية الحراك إلى الآن.

لا يوجد حراك عفوي. في غياب ممثلين معلنين، تتخذ بعض القرارات العملية كردِّ فعل على أفعال السلطة، وبعض القرارات الأخرى تكون مبادرات لأفراد أو مجموعات تدعي النطق باسم الحراك أو بالدعوات على وسائل الاتصال الاجتماعية. بعبارة أخرى، توجد قيادات أمر واقع للحراك؛ عدة أحزاب، من الحزب الشيوعي اللبناني واسع الحضور في كافة المناطق والساحات والقطاعات المهنية، المتنوع النشاطات وخصوصًا من خلال تنظيماته الشبابية والطلابية، إلى التنظيم الشعبي الناصري وحزب الطليعة العربية وحزب الكتلة الوطنية (المتجدد)، وأحزاب حديثة النشأة مثل «حزب سبعة» و«حركة مواطنين ومواطنات في دولة»، وعدد لا بأس به من المجموعات والتكتلات النسوية واليسارية، وهيئات لرجال أعمال، تضاف إلى جميعات ومجموعات موجودة منذ انتفاضة العام 2015 مثل «بيروت مدينتي» و«المفكرة القانونية» و«بدنا نحاسب»، وكثرة من المنظمات غير حكومية … إلخ؛ تضاف إليها هيئات ومنابر تولدت مع الحراك منها «تجمع المهنيات والمهنيين».

إلى هذا، تتساكن قوى الحراك مع أحزاب من السلطة والطبقة الحاكمة المعارضة للعهد الحالي، «القوات اللبنانية» و«تيار المستقبل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» التي تشارك في عدد من نشاطات الحراك ولا تتردد في ادعاء النطق باسمه وتحميله مواقفها وأهدافها. والأخطر هو الاختلاط الحاصل مؤخرًا بين قوى الحراك والجمهور المؤيد لتيار المستقبل الرافض لتكليف أي شخصية أخرى غير سعد الحريري لرئاسة الحكومة على اعتباره الأكثر تمثيلًا لطائفته. أقول الأخطر لأنه يُفقد الحراك طابعه الأصلي والأبرز، أي تجاوزه للحدود المذهبية والطائفية والمناطقية.

يصعب بناء بدائل لأدوات التأطير والتحشيد والقيادة التي تمثلها الأحزاب والنقابات خلال الحراك ذاته. ولكن ما يمنع التعويض ولو الجزئي عن هذا النقص هو ما يغلب على مناخاته من رفض لفكرة التمثيل والقيادة والتشكيك بالتنظيم وبالأحزاب.

إن بناء استقلالية الحراك عن أطراف السلطة، في الرؤية والسياسات، والتحضير لمواجهة الحكومة القادمة وسياساتها، بات يستدعي أن ينتخب ممثلين عنه يجري اختيارهم على أوسع نطاق في جمعيات عمومية وبالتنسيق بين ممثلي الساحات المختلفة، وأن يبلور رؤية برنامجية مستقلة. إن مصير الحراك نفسه يتوقف على هاتين المهمتين المتداخلتين.

يُحمٌّل كثيرون التوجهَ النيوليبرالي للسلطة الحاكمة منذ اتفاق الطائف مسئولية تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان؛ إلا أن أصواتًا قليلة هي التي تتحدث عن حلول لهذا الوضع. فما هو مدى مصداقية هذا الادعاء؟ وما هي الحلول الممكنة للخروج من مصيدة النيوليبرالية في لبنان؟

لا تُعدَم المشاريع والبرامج المجابهة للإجراءات النيوليبرالية. هذا موجز لبرنامج مضاد لـ «الورقة الإصلاحية»، التي اقترحتها الحكومة المستقيلة والمفترض أن تباشر الحكومة الجديدة في تنفيدها، قدَّمتُه منذ أكثر من شهر للنقاش في أوساط الحراك:

1. الدين العام: تحميل الذين جنوا المليارات من خلال المضاربة على المديونية دفع حصتهم من المسؤولية عن حل الأزمة؛ شطب نسبة مئوية من الدين العام، عملية «قص شعر» على كبار المودعين، تخفيف خدمة الدين بسلفة من المصارف قيمتها 6 مليارات دولار بصفر فائدة على ثلاث سنوات، كما فعلت المصارف سنة 2002.

2. زيادة موارد الدولة: استرداد أملاك الدولة والأموال المنهوبة وتغريم المعتدين عليها؛ فرض ضرائب تصاعدية على الدخل الموحد والتوريث والمضاربة العقارية.

3. معيشة الناس: معارضة خصخصة شركات الدولة وممتلكاتها؛ تفكيك الاحتكارات التجارية، استيراد الدولة للأدوية والمحروقات من المصدر بلا وسطاء؛ حماية الصناعات المحلية والإنتاج الزراعي ووقف التهريب؛ المساءلة حول نتائج تطبيق مشروع معالجة الفقر.

4. الشفافية ومكافحة الفساد: رفع الحصانة عن الرؤساء والوزراء والنواب السابقين والحاليين؛ تطبيق قانون الإثراء غير المشروع؛ سن «قانون تضارب الصلاحيات»، المطبَّق في القطاع الخاص، لمنع الجمع بين المال الخاص والمال العام.

سلاح حزب الله هو أكثر القضايا الشائكة في لبنان بين إيمان كثيرين بخطورة المساس بهذا الملف الذي يصفونه بحامي لبنان من العدو الإسرائيلي، وآخرين يقولون إنه سبب تردِّي الأوضاع في البلد. فما هي رؤيتكم لهذا الملف؟

لا يدخل موضوع سلاح حزب الله مباشرة في هذا الحراك الشعبي. ما يدخل هو سياسات حزب الله الذي أعلن أمينه العام منذ الأيام الأولى تمسكه بالنظام والسلطة القائمة وبالحكومة وأثار الشكوك على الحراك لجهة تدخل جهات غربية وأمريكية فيه، داعيًا جماهيره إلى مغادرة الشوارع. ذلك أن جماهيره لم تقل شكوى من تردي الأحوال المعيشية والبطالة والفساد وقد عبَّرت عن ذلك بأعنف تعبير خلال الأيام الأولى من الانتفاضة. وكان الهاجس الأول لقيادة حزب الله هو ألا يتكرر في لبنان ما حصل في العراق من غضبة جماهيرية وانفكاك قطاعات واسعة من الشيعة عن الأحزاب الحاكمة.

يصعب اتهام حزب الله بأنواع الفساد التي مارستها سائر الطبقة الحاكمة. لكنه مسؤول بالتأكيد عن التغطية على تلك السياسات خلال السنوات الطويلة من مشاركته في الحكم. أضف إلى ذلك أن الحزب لم يضع أي عقبة تذكر أمام الإجراءات النيوليبرالية التي أنجزت إلى الآن وهو الأخفض صوتًا في محاسبة القطاع المصرفي. اقتصر برنامجه في المسألة الاجتماعية حتى الآن على شعارين: لا ضرائب على الفقراء (علمًا أن الضرائب تنال فئات واسعة من ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة) واسترداد أموال الدولة المنهوبة.

المهم في الأمر أن حزب الله الذي شنت وتشن أجهزته الإعلامية الحملات الاتهامية ضد الانتفاضة على اعتبارها «تتبع أجندات خارجية»، وأمريكية خصوصًا، ها هو وحلفاؤه في الأغلبية النيابية قد اختاروا لتشكيل الحكومة نائب رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت، الذي رشَّحه رئيسا الجامعتين الأمريكية واليسوعية، للمنصب الوزاري، وحظي تكليفه بمباركة نائب وزير الخارجية الأمريكي ديفيد هيل خلال زيارته الأخيرة للبنان.

كذلك سؤال التدخل الخارجي، فالبعض يرى أنه لا سبيل للخروج من الأزمة الحالية دون مساعدة خارجية في الوقت الذي يشتكي فيه الجميع من التدخلات الخارجية في الشأن الداخلي ويحملونها مسؤولية كثير من الأزمات، فكيف يمكن حل هذه المعادلة؟

التدخل الخارجي الأكثر إلحاحًا المطلوب مواجهته في هذه الأزمة هو تدخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي و«مجموعة الدعم» لفرض سياسة تقشف وإفقار للدولة والشعب من خلال «الورقة الإصلاحية» التي أقرَّتها الحكومة اللبنانية المستقيلة. هؤلاء الأوصياء على الاقتصاد يقدمون الآن وصفات نيوليبرالية يعرفون تمامًا أنها لم تنجح في أي بلد من البلدان التي نكبت ويعرضون قروضًا ميسرة من 11 مليار دولار للاستثمار في البنى التحتية على افتراض أن تحسين البنية التحتية من شأنه جذب رؤوس الأموال الخارجية للتوظيف في القطاعات الإنتاجية. كأننا لم نكتشف بعد أن رؤوس الأموال تتبع أعلى معدلات الربح وليس أجدى ما يناسب البشر والاقتصاد. وكأننا لم نكتشف وهم مثل هذه البدعة النيوليبرالية: تدفقت رؤوس أموال خارجية ورؤوس أموال مغتربة بعيد الحرب وقد توجهت في معظمها نحو الاستثمار في القطاعات الأكثر إدرارًا للربح وخصوصًا في العقارات وسندات الخزينة (بلغت الفائدة عليها 42.5% وغادر معظمها بعد خفض الفائدة).

يرى البعض أن الطائفية في لبنان تتخطى الطائفية السياسية وأنها تجذرت في المجتمع. فهل هناك أفق لخروج لبنان من هذه الطائفية؟ وكيف؟

دعني أسجِّل على هذا الموضوع الشائك والمعقَّد ما يلي:

أولًا، تُشكِّل الطائفية، في نظري، منظومة من الامتيازات الجمعية، ومن الفوارق الصغيرة داخل الفوارق الاجتماعية-الطبقية الناتجة عن التحكُّم بالاقتصاد، والوصول إلى الموارد والتفاوت في المداخيل الثروة. تتدخل الطائفية في مجال توزيع العمل، وخصوصًا التوظيف والترقي في القطاع العام، وتخدم في التغطية على الفساد والإفساد، وفي التربُّح على حساب المال العام، وتتغذى من التفاوت في النمو والموارد وتوزيع خدمات الدولة بين المناطق المختلفة، وكلها ذات غلبة طائفية أو مذهبية.

في أوضاع الأزمات الاقتصادية-الاجتماعية، تتسابق الطوائف كجماعات في النزاع على احتكار الحرمان والمظلومية. يشكل هذا المزيج من الاحتقان الاجتماعي والتمييز بين الجماعات، الخليطَ القابل للانفجار عندما يندمج الاحتقان الاجتماعي-الطبقي مع التظلُّم الطائفي-المذهبي، أو يعبِّر الأول عن نفسه من خلال الثاني. وقد دلَّت تجربة السنوات التي سبقت الحرب كيف أن تضافر هذين العاملين يؤدي إلى انكسار الوحدة المجتمعية عند الفالق الطائفي، أي عند الانقسامات الأكثر بروزًا من حيث التصورات والعادات والمؤسسات السائدة.

دعني أطرح هذا المعادلة الداعية إلى «التجويف الاقتصادي-الاجتماعي للطائفية»: إذا تأمَّن التوظيف والترقي الوظيفي بناء على معيار الكفاءة، وتأمنت تنمية مناطقية عادلة وتوزيعٌ عادل لخدمات الدولة بينها، وتقلصت الفوارق بين اللبنانيين في فرص العمل والمداخيل والثروات، واعتُمد نظام للتقاعد وللضمان صحي شامل، وإذا ما قطِعتْ أشواط في السيطرة على الفساد – إذا تأمنت مثل هذه الإجراءات، هل يبقى الكثير من أسباب التظلُّم الطائفي، أو من اضطرار الناس إلى اللجوء إلى جماعاتهم وقياداتهم وأحزابهم الطائفية والمذهبية ومرجعياتهم الدينية؟ أم تتحول الطوائف والمذاهب، مع الوقت، إلى تنوُّع إيماني وتعدُّد ثقافي (في العادات والتقاليد) وإلى ذكريات تاريخية لا تحجب ماضي النزاعات الأهلية، بل تبرز هذه بما هي نتوءات في تاريخ مشترك لا يُختزَل بها؟

ثانيـًا، لا يوجد شيء يسمَّى إلغاء الطائفية. يوجد مسار لتفكيك وتجاوز نظام موجود ومتوالد ومدعَّم منذ ولادة لبنان، بل قبل ذلك. بلغ هذا النظام ذورة تناقضاته عشية الحرب الأهلية. وفي ختامها، صيغ دستور تضمَّن مواد تعدِّل من التوازن بين الطوائف والمذاهب في مراكز السلطة الرئيسة، لكنها قضت، في الآن ذاته، بإلغاء الطائفية السياسية عن طريق إلزام رئيس الجمهورية بتشكيل «هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسية» وإنشاء مجلس شيوخ تنتخبه الطوائف والمذاهب، في مقابل مجلس نواب يُنتخب أعضاؤه خارج القيد الطائفي.

هكذا ترى أن دستور لبنان يقوم على ثنائية كاملة: يعترف باللبناني بما هو عضو في جماعة، وبه بما هو فرد، أي مواطن. ويعترف بحقوق للجماعات (هي حقوقهم بما هم طوائف في التمثيل السياسية وقوانين الأحوال الشخصية) مثلما يعترف بحقوق للأفراد، إذ يعلن المساواة بين اللبنانيين دون تمييز.

على أن الذي غلب في الممارسة كان ولا يزال هو حقوق الجماعات. تأكيدًا على ذلك، تواطأت كل مكونات الطبقة الحاكمة، ولا تزال تتواطأ، ضد تنفيذ أي من المواد الدستورية المذكورة أعلاه. بل إنهم، في ردودهم على الانتفاضة، زايدوا في الدعوة لإلغاء الطائفية واعتبار أن الحل لا يكون إلا بالدولة المدنية وبنظام موحَّد للأحوال الشخصية.

ليس هذا الدجل هو المستغرب. المستغرب هو أن معظم الديمقراطيين والعلمانيين والتقدميين واليساريين ما زالوا قليلي الاكتراث بأنهم محكومون بدستور غير مكتمل التطبيق، وبأن حكامهم بالتالي غير شرعيين. والأفدح أنهم ذاهلون عما يتيحه لهم الدستور في معركتهم لتجاوز الطائفية، ونادرًا ما ترتفع أصوات تطالب باستكمال تطبيق الدستور بتطبيق مواده المتعلقة بتجاوز الطائفية.

أضف إلى هذا أنه قد تراكمت على مدى العقود الماضية مشاريع إصلاح تكمِّل هذا المواد الدستورية فتدعو إلى سن قانون انتخاب يعتمد لبنان دائرة انتخابية واحدة، وأن يجري الاقتراع في مكان السكن، بناء على النسبية واللوائح الانتخابية المقفلة. واستكمالًا لذلك ثمة مطالبة مزمنة بسن تشريع مدني اختياري للأحوال الشخصية يمنح اللبنانيين واللبنانيات حرية الاختيار للقواعد والتشريعات التي تحكم حياتهم الشخصية.