في مثل هذه الأيام، أعلن المجلس الأعلى العسكري في الجزائر تسلمه مقاليد السُلطة في البلاد عقب التراجع عن المسار الانتخابي الذي شهدت جولته الأولى انتصارًا ساحقًا لأنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وهي الإجراءات التي أسّست لفصلٍ أسود في تاريخ الجزائر شهد وقوع عشرات الآلاف من الضحايا ومجازر بشعة في شتّى أنحاء التراب الجزائري، وندوب اجتماعية في الجزائر لم تبرأ منه وربما لن تبرأ منه أبدًا.

فكيف بدأت قصة الدم الكبرى تلك؟ ومن أشعل شرارة النار الأولى؟

البداية كانت في أكتوبر عام 1988م، حين اندلعت احتجاجات جزائرية في المدن الكبرى ضد الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وسريعًا اشتعلت نيران العضب وتمدّدت المظاهرات بشكلٍ أعجز رجال الشرطة عن السيطرة على الموقف؛ فاضطر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد إلى نشر الجيش في البلاد، وتوزّعت الدبابات على الميادين الرئيسية.


لم يضع هذا الإجراء حدًّا للمظاهرات، وإنما وقعت اشتباكات دموية بين المتظاهرين والجنود أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا.. هنا لمع اسم رئيس أركان الجيش خالد نزار، الذي كان مكلفًا بالحفاظ على أمن العاصمة مهما كان الثمن.



كشف

مدير المخابرات الجزائرية الأسبق الجنرال محمد بتشين عن أن نزار أمر بإطلاق الرصاص الحي على المعتصمين الإسلاميين، كما

اتّهم

خالد زياري القائد السابق للمديرية العامّة للأمن الوطني، خالد نزار بالتسبب في مقتل 500 متظاهر على أقل تقدير، وهو ما نفاه نزار متمسكًا بالرواية الرسمية للدولة التي أكدت أن عدد الضحايا لم يزد عن 169 ضحية.

يقول نزار في مذكراته:
عندما أصدرت تلك الأوامر، لم أكن أعتقد أنه من الممكن حدوث مثل تلك التجاوزات، وبرغم
ذلك فإنني يمكنني القول إن عمليات التعذيب خلال أحداث أكتوبر هي وصمة عار يجب محوها
بتجنب حدوثها مرة أخرى، لكني يجب أن أؤكد أن العنف الذي حدث خلال تلك الفترة لم يكن
بالضخامة التي صورها الإعلام.

قُمعت الاحتجاجات
في النهاية، وتمكن نزار من الحفاظ على النظام الحاكم من السقوط، لكن الثمن كان فادحًا.

جزائر حُرة ديمقراطية إسلامية

كوسيلة لامتصاص
غضب المتظاهرين، تعهّد الشاذلي بن جديد بأنه سيجري إصلاحات اقتصادية شاملة، كما
سيسمح بالتعددية الحزبية لأول مرة في الحياة السياسية الجزائرية بعد 30 عامًا من
سيطرة الحزب الواحد.

جرى إعداد دستور جديد يسمح لكافة التيارات السياسية بممارسة أنشطتها، بما فيهم الإسلاميون الذين بزغت قوتهم الجماهيرية خلال أحداث أكتوبر، وهو ما اعترض عليه خالد نزار بشدة، واعتبر أن مجرد
وصولهم إلى السُلطة يُهدِّد الطابع الجمهوري للدولة، لكن الشاذلي أصرّ على تمرير
التعديلات الدستورية كما هي.

في العام 1989م، تم إقرار دستور الجزائر الجديد، وشهدت البلاد أجواء انفتاح سياسي غير مسبوقة، تمخّضت عن تكوين 60 حزبًا سياسيًا دفعة واحدة؛ عاد القائد التاريخي للجزائر بن بيلا وأسَّس حزبه «حركة من أجل الديمقراطية»، كما دشّن الزعيم السياسي حسين آيت أحمد ما عُرف بـ«جبهة القوى الاشتراكية»، وسمحت الحكومة للإسلاميين بتأسيس كيانهم السياسي الأول في تاريخ الجزائر، الذي أُطلق عليه اسم «الجبهة الإسلامية للإنقاذ».

قاد هذه الجبهة اثنان من الكوادر التي لعبت
دورًا كبيرًا في تأجيج مظاهرات أكتوبر، وهما الشيخ عباسي مدني أستاذ العلوم
الإنسانية في جامعة الجزائر والعضو السابق في جبهة التحرير الوطني، والشيخ علي
بلحاج وهو أستاذ في المرحلة الإعدادية.

المارد يخرج من القمقم

لم تُقدِّم الجبهة برنامجًا سياسيًا محددًا، وإنما
اعتمدت فقط على الخُطب الرنّانة لاكتساب شعبية في قلوب الجزائريين، لكنها كانت
تُقدم خطابًا دينيًا حماسيًا كان غائبًا عن الجزائريين، الذين لم يعهدوا من القوى
الدينية التقليدية، إلا اتباع سياسة مُهادنة لأي سُلطة حاكمة بما فيها سُلطة
الاستعمار.

لهذا تمدّدت الجبهة في التراب الجزائري، وقدّمت للأهالي أنشطة تنموية تفوقت حتى على جهود الدولة في أزمات الجزائر الكبرى، فعندما تعرّضت منطقة تيبازة لزلزالٍ كبير نشط أعضاؤها في إعانة الضحايا وتقديم المساعدات، كما انتشرت في القرى ما عُرف بـ«الأسواق الإسلامية» التي قدّمت السلع للمواطنين بأسعار مُخفّضة.

حينما أضرب عمّال النظافة في العاصمة الجزائر تكدّست النفايات في الشوارع، فانتشر متطوعو الجبهة في كل مكان يُنظِّفون الطرقات، وفي بعض المناطق انتشر في الشوارع شباب علّقوا على سواعدهم شرائط تحمل عبارة «شرطة إسلامية» يتأكدون من فرض الانضباط لدرجة التحكم في الحياة اليومية للمواطنين.

يحكي سويدية في كتابه «الحرب القذرة»، أن الإسلاميين سيطروا على الأحياء الفقيرة بشكلٍ تام، وفرضوا عليها القوانين الإسلامية، فمُنعت الصحون اللاقطة والسجائر والصحف، وأُلزمت الفتيات على الحجاب ومُنعن من الذهاب للعمل، والغريب أنه لم يكن مسموحًا للجيش الجزائري باقتحام هذه الأحياء، وإنما كان يكتفي بمحاصرتها من الخارج.

وفي الانتخابات البلدية التي جرت في يونيو 1990م حققت الجبهة نجاحًا ساحقًا بعدما حصدت نسبة فاقت الـ 54% من الأصوات، متفوقة على الحزب الحاكم بفارقٍ شاسع.

يقول الباحث رابح لونيسي في أطروحته «الجزائر في دوامة الصراع»، إن السماح بفوز الجبهة في هذه الانتخابات كان وسيلة استخدمها النظام لإضعافها مستقبلاً بعد أن مارس على هذه المجالس البلدية تضييقات مالية وإدارية جعلته عاجزًا عن أداء مهامه، وبالتالي اتهامه بالفشل أمام الشعب، وفي الشهر التالي مباشرة جرى تعيين خالد نزار عدو الإسلاميين اللدود وزيرًا للدفاع.

شكّل هذا النجاح المتصاعد للجبهة صداعًا في رأس قادة الجيش، لكن الأسوأ لم
يكن قد أتى بعد، فالانتخابات البرلمانية على الأبواب، وكان فوز الإسلاميين شبه
المؤكد بها سيقودهم إلى سُدة الحكم، وهو ما يُمثل خيارًا مستحيلاً في العقلية
العسكرية الجزائرية.

فلنقتل الإسلاميين بالإسلاميين

أغلب ضباط الجيش الجزائري كانوا عناصر في جبهة التحرير الوطني خلال حروب
الاستقلال مع فرنسا، ولم يتخيّل هؤلاء الضباط أن يأتي يومٌ يسمحون فيهم بتسليم
السُلطة لغير جبهتهم، وتحديدًا للإسلاميين الذين لطالما اعتبروا أنفسهم خصومًا
سياسيين لهم منذ عهد بن بيلا وحتى هذه اللحظات.

اقتنع الضباط أن عناصر الجبهة سيذبحونهم كما فعل الإيرانيون برجال السافاك
عقب نجاح الثورة الإسلامية،لذا كان القرار الراسخ في عقول قادة الجيش الجزائري
طوال متابعتهم المشهد السياسي منذ البداية، أنه لا سُلطة لقياديي الجبهة ولو نالوا
أصوات الشعب كله.

يقول ضابط المخابرات الجزائرية محمد سمراوي في كتابه «إسلاميون وعسكر»، إن خالد نزار اتّبع خطة شيطانية للتعامل مع خطر الجبهة الإسلامية، لم تستعجل الاصطدام بها وإنما سمحت لها بالنمو واكتساب القوة، وفي ذات الوقت جرى العمل على وضْع هذه القوة المتنامية تحت السيطرة قدْر الإمكان، وإطلاق حملة تشويه إعلامية كبرى ضد كل فِعلٍ يقومون به.

الأمر الذي سيجعل
منهم كابوسًا ثقيلاً على الجزائريين يجب الخلاص منه بأي وسيلة، عندها يكون القضاء عليها سهلاً ومُبرّرًا، ويضمن الجيش لأي حركة استئصالية
يقودها ضدهم تأييدًا شعبيًا، فتنتهي الجبهة الإسلامية للأبد، ويأمن الجنرالات على
أعناقهم ومناصبهم.

لهذا كان يجب إجراء بعض مراحل الاستحقاق الانتخابي، حتى تتجلّى الفزّاعة في عيون الجزائريين على أكبر ما يكون؛ البداية كانت مع الرئيس الشاذلي المغضوب عليه من قِبَل العسكر بعد أحداث أكتوبر، غُميت عيناه عن الحقائق، وأقنعته المخابرات الجزائرية بأن جبهة التحرير ستنال 80% من الأصوات، بينما كانت أكثر التقديرات تفاؤلاً تؤكد أنها لن تنال إلا 40% منها فقط، ولهذا استكمل الشاذلي المسار الانتخابي مطمئنًا أن جبهته ستُحقق انتصارًا حاسمًا هذه المرة.

ومنذ العام 1990م بدأت اجتماعات مكثفة لبحث كيفية الاستفادة من قوة الإسلاميين، فأُفسح المجال لعلي بن حاج ليُطلق خطاباته النارية من فوق منابر المساجد كل جمعة، وكذلك سُمح للجبهة بتنظيم مسيرات استعراض ضخمة ضمّت عشرات الألوف من الأنصار في قلب العاصمة الجزائر.

يقول ضابط المخابرات حبيب سويدية، إن التعليمات التي وردت إليه كانت تقتضي بترك الإسلاميين يفعلون ما يشاؤون. لم تكتفِ مسيرات الإسلاميين بمجرد التظاهر في الميادين، وإنما حاصرت قصر الحكومة ورئاسة
الجمهورية ومقر وزارة الدفاع.

ويضيف عالم الاجتماع الجزائري إلياس بوكراع في كتابه «الجزائر.. الرعب المقدس»، إنه لم يكد العام 1990م ينتهِي إلا وكانت الجبهة قد فرضت سيطرتها على 15 ألف مسجد في أنحاء الجزائر، سُمح لها باستخدامها كأماكن للاجتماعات ومخابئ للأسلحة والتدرّب على الفنون القتالية، وكلما مرَّ الوقت ازداد أعضاء الجبهة ثقة بأنفسهم واعتبروا أنهم فازوا بالانتخابات قبل أن تُعقد، دون أن يدروا أن العسكر يتلاعبون بهم عن طريق عملائهم الذين دسّوهم في قلب الهيكل الإداري للجبهة.

لم تُهدِّئ المخابرات الجزائرية الأوضاع كما قد نتوقّع،
وإنما قامت بكل جهودها لسكب المزيد من الزيت على النار؛ نشرت بيانات مزيفة تحمل
توقيع الجبهة في أنحاء البلاد تدعو إلى حمل السلاح ضد الدولة، كانت هذه البيانات
تُقرأ في التلفزيون الرسمي للدولة في نشرة أخبار الثامنة كل يوم.

وفي أحد الاجتماعات السرية مع قادة الجيش، أعلن نزار بوضوح أنه لن يقبل بوجود الإسلاميين في الحُكم إلا في حال عدم تجاوز نسبتهم الـ30% من أصوات الانتخابات التشريعية. جرى العمل على تفتيت الكتلة التصويتية الإسلامية عن طريق إكساب الجبهة الإسلاميين خصومٍ من نفس معسكرها، فتم الاتصال بالشيخ محفوظ نحناح رئيس جمعية الإصلاح والإرشاد الخيرية (ممثل جماعة الإخوان المسلمين)، وسُمِح له بتشكيل حزب «حركة مجتمع السلم» إلى النور، والذي عُرف اختصارًا بلقب «حمس».

جرى تشجيع عددٍ من متطرفي الحركة الإسلامية الجزائرية الذين أُفرج عنهم من السجون، على إعادة تنظيم صفوفهم، ويُفجر سمراوي مفاجأة كبرى، حين كشف عن أن الأمن خصّص ميزانية لتدريب شباب هذه الجماعات على الرياضات القتالية، كما أنشأ سلاح المهندسين مخابئً لهم.

بعدها سعى الجيش إلى استغلال عناصر الجبهة قليلي الخبرة السياسي، والذين لا يعرفون من فن الإدارة إلا العنتريات الخطابية، ودفعهم إلى الاصطدام بالمجتمع بكل قوة، وهو ما تجسّد في اتخاذ الجبهة قرارها بتنظيم إضرابٍ عام احتجاجًا على قانون الانتخابات الجديد.


تحمّس قياديو الجبهة لاندفاعهم الصبياني نحو فخِّهم
القاتل، أعلن عباسي مدني الإضرب العام يوم الجمعة 24/5/1991، ولمدة 10 أيام احتلت
حشود الإسلاميين ساحات العاصمة الرئيسية، وشلّوا الحركة في الشوارع وحُوصرت جميع
المباني العامة.

يقول خالد بن ققه في كتابه «أيام الفزع»: كانت أيام صعبة ومقلقة لسكان العاصمة، فالأفواج من البشر تتعاظم كل يوم، وأكوام الزبالة تراكمت حتى فقدت الجزائر مظهرها الجمالي، والناس أُجبروا على غلق متاجرهم، والذين رفضوا كُسرت أبواب محلاتهم، كما صرّح مدني، بأنه إن لم يرجع الجيش إلى الثكنات، يكون من حق الجبهة أن تدعو إلى استئناف الجهاد، وكانت هذه التصريحات نذيرًا بأن الحرب بين الطرفين لن تكف عن الاشتعال.

وخلال هذه الفترة جرت احتكاكات بين قوات الأمن وشباب الجبهة، على إثرها تم اعتقال الآلاف من أعضائها، كما اعتبر خالد نزار هذه الأجواء فرصة مثالية لقطع الرأس عن الذيل، فأرسل وحدة كوماندوز طوّقت المقر العام للجبهة وألقت القبض على عباسي مدني، في الوقت الذي كانت فيه قوة أخرى تضبط علي بن حاج.


وفيما بعد صدر ضدهما حكمٌ في 15 يوليو عام 1992م بالسجن 12 عامًا بتهمة ارتكاب جرائم ضد أمن الدولة والإضرار بالاقتصاد الوطني بسبب تحريضهما على العصيان المدني.


بعدها أجرى خالد نزار زيارة سريعة إلى الملك فهد في
السعودية أقنعه فيها بإيقاف أي تمويل يجري للجبهة وتحويله إلى حزب محفوظ نحناح،
وخلال اللقاء أخبر العاهل السعودي خالد نزار أعضاء الجبهة ليسوا مسلمين، ونصحه بلا
يُعاملهم إلا بالعصا!

وبالطبع كانت تصريحات الملك خالد متأثرة بموقف الجبهة الإسلامية الداعم للعراق خلال حرب الخليج الثانية. هنا اكتملت أعمال الحصار الداخلية والخارجية، وباتت الانتخابات على الأبواب، وفجأة، نشرت الصحف أنباءً عن هجوم انتحاري نفذه إسلاميو الجبهة على ثكنة «قمار» العسكرية التي تقع جنوب شرقي البلاد، أسفر الحادث عن مقتل 7 عسكريين، وقبل إجراء أي تحقيقات، أعلنت كافة وسائل الإعلام أن مسلحي
الجبهة تقف وراء الحادث، وهو ما نفته الجبهة بشكل قطعي.

ويكشف سمراوي، أن هذه العملية بالكامل من تخطيط أجهزة الأمن، وأن
الهدف الرئيسي منها ترهيب الجبهة في عيون الشعب، وإقناع صغار الضباط أن معركتهم مع
الإسلاميين هي مسألة وجود، وبالتالي تكون طاعتهم مضمونة لأي إجراءات قمعية تُتَّخذ
ضد أعضاء الجبهة مستقبلاً.

تجاوز الخطوط الحمراء

في 26 من ديسمبر عام 1991م، أعلن عبد المالك بن حبيلس
رئيس المجلس الدستوري النتائج الرسمية للدور الأول من الانتخابات، حققت الجبهة
الإسلامية فوزًا ساحقًا بـ188 مقعدًا بينما لم تنجح جبهة التحرير الوطني في حصد
إلا 16 مقعدًا.

مثّل هذا الإعلان فشلاً عارمًا لخطة تحجيم الإسلاميين التي سار عليها خالد نزار طوال الأشهر الماضية، خرج المارد من القمقم وتجاوز الخط الأحمر المسموح به. لم يُضع خالد نزار وقته، وإنما بدأ فورًا جهوده لإيقاف المسار الانتخابي، أجرى اجتماعات محمومة مع قادة منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المدنية ووسال الإعلام.

وبالرغم من رفض جبهة القوى الاشتراكية أي تأجيل في الانتخابات إلا أنها نظمت مظاهرات حاشدة تُندد بالدولة الأصولية.


بل وحتى داخل جبهة التحرير الوطني، التي تلقت خسارة مُوجعة، طالبت بعض الأصوات باستكمال المسار الديمقراطي حتى نهايته، لم يحفل نزار بهذه الاعتراضات، وواصل مساعيه من أجل عدم
استكمال الانتخابات، إلا أنه فوجئ يوم 27 ديسمبر بالرئيس الشاذلي بن جديد يجتمع
بالقيادي الإسلامي عبدالقادر حشّاني الذي تولّى قيادة الجبهة عقب اعتقال علي بلحاج
أعلن فيه الشاذلي أنه سيحترم الاختيار الشعبي أيًا كان.

ويكشف نزار في مذكراته عن أن الشاذلي قام بمحاولة أخيرة
لاحتواء الموقف فأرسل عرضًا لعباسي مدني يدعوه فيه للتجاوب مع إلغاء الانتخابات البرلمانية
مقابل تقديم الانتخابات الرئاسية والسماح للإسلاميين بالدخول فيها.

لم يُكن يُكتب لهذا العرض النجاح أبدًا، ليس فقط بسبب تصلب موقف أعضاء الجبهة، وإنما لأن الشاذلي لن يعود صانع قرارٍ في الجزائر، بعدما تقرّرت الإطاحة به؛ ترأَّس خالد نزار اجتماعًا فوريًا جمعه بقادة الجيش يومي 28 و30 ديسمبر وبدأوا في مناقشة مسألة «خلع الرئيس»، وعلى الرغم من تسرّب أنباء هذا الاجتماع إلى الشاذلي بن جديد إلا أنه خالد نزار كان أكثر سرعة منه.

ولكن كان نزار أكثر سرعة في حركاته من الشاذلي، فذهب إليه في المقر الرئاسي واجتمعا معًا وخرج من هذه الجلسة بإعلان الشاذلي مستقيلاً. بعض الهمسات تحدثت عن ضغوط عنيفة تعرّض لها الشاذلي بن
جديد لإجباره على الاستقالة، منها ما ذكره سويدية بأن نزار هدّد الشاذلي بملاحقة ابنه قضائيًا بسبب تورطه في قضايا فساد
إن لم يستجب له، وحينها أُشيع أن نجل الشاذلي بن جديد قد تورّط في تهريب أموال من
بنك التنمية المحلية.

وفي جميع رواياته الحالية يُصرُّ نزار على أن الرئيس الشاذلي استقال من منصبه دون أن يتعرض لأي ضغوط، وبالفعل في 11 يناير أعلن الشاذلي بن جديد حل مجلس النواب واستقالته من منصبه، كانت هذه الخطوة هي المبرر الذي استغلّه العسكريون لإعلان عدم مواصلة المسار الانتخابي.


لاحقًا، تم اختراع هيئة أسموها «المجلس الأعلى للدولة»، وعُهد برئاستها إلى أحد قادة حرب التحرير التاريخيين محمد بو ضياف، الذي عاد رسميًا إلى الجزائر يوم 16 يناير بعد 28 عامًا قضاها منفيًا في فرنسا والمغرب بسبب خلافاته المبكرة مع قادة جبهة التحرير، بعدها ببضعة أيام تم اعتقال حشاني، كما صدرت التعليمات باعتقال أكبر عددٍ ممكن من الإسلاميين، وشنَّ رجال الشرطة حملة شعواء لاعتقال كل شخص ملتحٍ أو يرتدي جلبابًا.

خلال شهرين فقط جرى اعتقال ما يزيد عن 13 ألف شخص عاشوا ظروف اعتقال غاية في الصعوبة، وفي 23 من يناير 1992م، أعلن 100 من رؤساء الطرق الصوفية
تأييدهم للمجلس الأعلى للدولة ورئيسه بوضياف، وبعدها بعدة أيام أعلن بو ضياف حالة
الطوارئ في أنحاء البلاد.

أعلن يخلف شراتي مسؤول لجنة الدعوة في الجبهة فتواه الشهيرة: «منذ لحظة منعنا من إقامة الدولة الإسلامية، منذ لحظة الابتعاد من الشريعة الإسلامية، صار مباحًا لنا إعلان الجهاد ضد كل هؤلاء الذين يقفون إلى جانب السُلطة».

فور إعلان حالة الطوارئ، أتى الرد عليها فوريًا بعدما هاجمت جماعة مسلحة 7 من رجال الشرطة غربلوا أجسادهم بالرصاص، وبعدها بثلاثة أيام وبعدها بثلاثة أيام هُوجمت وحدة عسكرية في ميناء الجزائر أسفرت عن 10 قتلى. قُبض على بعض الأفراد الذين عُرضوا على شاشة التلفاز،
واعترفوا أنهم نفّذوا هذه العملية بسبب تعاطفهم مع الجبهة الإسلامية، وفي 4 مارس
صدر قرار حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

ويحكي سمراوي، أنه اكتشف فيما بعد أن قادة الجيش هم مَن دبّروا هذين
الهجومين، كمبُرِّر للمزيد من الإجراءات القمعية التي شهدتها البلاد.

ولاحقًا

كشف

الجنرال حسين بن حديد المستشار الأسبق لوزير الدفاع الجزائري عن أن بعض رجال المخابرات كانوا يتعاملون مع أمراء الجماعات الإسلامية المسلحة، وتركوا المجال مفتوحًا لتحركاتهم، وهي الاتهامات التي لم يتسامح بها نظام الرئيس الجزائري الأسبق عبدالعزيز بتوفليقة فتم إيداع الرجل في السجن المؤقت بتهمة «إحباط معنويات الجيش».

واستمرَّ سعي الدولة الجزائرية الحثيث في أسلمة أي حادث
كبير حتى في لحظة كبرى كاغتيال الرئيس محمد بوضياف على يد أحد حراسه الشخصيين هو
الملازم مبارك بومعرافي، وبالرغم من أنه شخصية عسكرية إلا أن لجنة التحقيق كثّفت
من مساعيها لعدم اتّهام الجيش بقتله فأكدت في تقريرها أنه ذو خلفية إسلامية وكان
يقرأ كتب محمد الغزالي ويوسف القرضاوي.