في إحدى ليالي يوليو/تموز 2019، جلس شولو عبد الله أمام حاسوبه الشخصي، يراجع عددًا من الأبحاث حول الطائرات التجارية، ويستذكر دروس تعلم الطيران التي تلقاها خلال تواجده في الفلبين، ثم شرد ذهنه قليلًا وهو يفكر في رحلاته الخاصة، قبل أن يقطع دبيب قوي خلوته، ليفاجأ بمجموعة من الرجال المسلحين يطوقونه ويضعون الأصفاد في يديه، فيما غُطيت عيناه بقطعة قماش سوداء حالت بينه وبين رؤية ما حوله.

لاحقًا، وُضع عبد الله على متن طائرة خاصة في طريقها للولايات المتحدة، حيث

سُلِّم لمكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي

، وخضع لجلسات تحقيق طويلة لاتهامه بمحاولة تنفيذ هجمات إرهابية على غرار هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

لم تحظَ قصة الشاب الذي ينحدر من أصول كينية بتغطية إعلامية كبيرة منذ القبض عليه وحتى منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما أعلنت جهات رسمية أمريكية من بينها مكتب الادعاء الفيدرالي في مانهاتن أن عبد الله وُجِّه من قبل قيادي كبير في حركة الشباب المجاهدين الصومالية المرتبطة بتنظيم القاعدة، لاختطاف طائرة تجارية وتحطيمها في مبنى شاهق بإحدى المدن الأمريكية.

كانت تلك المحاولة غير المكتملة بمثابة تأكيد واضح على أن تنظيم القاعدة ما زال يعتبر نفسه قائدًا للجهاد المعولم الذي يسعى لضرب الولايات المتحدة الموصوفة لديه بـ«رأس الكفر العالمي» في عقر دارها، وهي نفس السردية التي صاغها قادة القاعدة المؤسسون وعززوها في أذهان أتباعهم، رغم التحورات والتغيرات التي طرأت على التنظيم طوال سنوات الحرب ضد الإرهاب.

رغم الإعلان عن مؤامرة 11 سبتمبر الجديدة

استمر تراجع «القاعدة»

وتعرض بناؤها القيادي لواحدة من أكبر عمليات الخلخلة التنظيمية، ونجحت جهود مكافحة الإرهاب الدولية في تحييد مجموعة من أبرز أمرائه، من بينهم عبد الله أحمد عبد الله المكنَّى بأبي محمد المصري (الرجل الثاني في التنظيم)، وحسام عبد الرؤوف المعروف بأبي محسن المصري (المسؤول عن الجناح الدعائي)، في أغسطس/آب ثم أكتوبر/تشرين الأول 2020، إضافةً إلى عدد آخر من القادة المسؤولين عن الأفرع المحلية، خلال نفس العام، منهم قاسم الريمي/أبو هريرة الصنعاني أمير فرع شبه الجزيرة العربية السابق، وعبد الملك درودكال/أبو مصعب عبد الودود أمير فرع المغرب الإسلامي، وعدد من القادة البارزين في «حراس الدين» (الفرع السوري).

تكيف فريد واتجاه نحو اللامركزية

علاوة على مقتل قادته،

اختفى أيمن الظواهري

، المسؤول الأول عن التنظيم، وانقطعت اتصالاته بأفرع القاعدة المحلية كتنظيم «حراس الدين» وغيره، وراجت شائعات غير مؤكدة عن وفاته لأسباب طبيعية وهو ما لم تؤكده أي جهة حتى الآن، وفقًا لآخر تقرير صادر عن لجنة الجزاءات المعنية بملف «القاعدة» و«داعش» في مجلس الأمن الدولي، فيما تواصلت العمليات التشغيلية الروتينية لأذرع التنظيم بصورة لا مركزية بغض النظر عن وضع قيادته العليا القابعة في جنوب آسيا.

بدا تنظيم القاعدة في تلك المرحلة وكأنه مجموعة ناجحة في التكيف والتحور لتتواءم مع طبيعة البيئة العملياتية المتغيرة التي ينشط بها – تكون تلك البيئة عدائية غالبًا على اعتبار النشاط الممتد للحملة الدولية لمكافحة الإرهاب – إذ تغيَّر البناء الهيراركي القديم له الذي وُجد عند تأسيسه واعتمد على قيادة مركزية مسيطرة وفاعلة تتبعها سرايا وخلايا تضم بضع مئات من المقاتلين، إلى شكل أخطبوطي يضم رأسًا صغيرًا وأذرعًا طولى ممتدة في أكثر من بقعة جغرافية.

بيد أن تلك الأذرع الأخطبوطية تميزت بنوع من الإدراك الذاتي لكينونتها المنفصلة بعيدًا عن الرأس، وركزت بشكل أساسي على

رسم وتحقيق أهدافها في البيئة المحلية

التي تنشط فيها، فانشغل فرع المغرب الإسلامي بمحاولة

تغيير الصورة الذهنية المترسخة

عنه سعيًا لكسب الحواضن الشعبية في الجزائر وتونس والمغرب كما تُظهر بياناته الإعلامية المتكررة، فيما اهتمت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» (فرع الساحل والصحراء) بالتمدد ضمن قطاع عمليات جغرافي يشمل مناطق مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وركزت حركة الشباب على تنفيذ هجمات في شرق أفريقيا تمَّ أغلبها داخل الحدود الصومالية، بينما استهدفت العمليات الخارجية دولة كينيا المجاورة جغرافيًّا والمنخرطة في حرب الحركة داخل الصومال.

وكذلك عمل تنظيم «أنصار الشريعة» (فرع شبه الجزيرة العربية) على تعزيز مكانته في مواجهة غريمه التقليدي، «ولاية اليمن» (فرع تنظيم الدولة الإسلامية المحلي)، وأعدائه القدامى جماعة الحوثي، والقوات اليمنية الحكومية المدعومة بالتحالف العربي؛ وهو نفس الأمر الذي قام به ما تبقى من الفرع الليبي (المرابطون) الذي تحول

لمجموعات متناثرة في الجنوب الليبي

بعد الانتكاسات التي تعرض لها خلال السنوات الماضية، كما ركز تنظيم أنصار غزوة الهند (فرع القاعدة في شبه القارة الهندية) الناشط في كشمير والهند وبنجلادش، والفرع السوري المعروف بحراس الدين، على تدعيم مواقعهما الحالية في بؤر نشاطهما، دون أن يكون هناك تنسيق مشترك بين هذه الأفرع لتحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة من القيادة المركزية.

وساهمت الضربات المركَّزة التي استهدفت قيادة القاعدة ورجالها، في تسريع التحول التنظيمي نحو اللامركزية، إذ ضعفت الصلات التي تربط المركز بالأفرع المحلية، بينما بقيت جملة من الوشائج المشتركة بين كل الأفرع، أبرزها الشعار/العلامة الجهادية للقاعدة والمنهج الحركي/الشرعي شبه الموحد والهدف النهائي الذي يجمع كل المقاتلين باسم الحركة الجهادية المعولمة، في تجسيد واضح لأطروحة (النظام لا التنظيم) التي أطلقها أبو مصعب السوري، المنظر الاستراتيجي للقاعدة، في أوائل الألفية الحالية، ووضعها في كتابه «

دعوة المقاومة الإسلامية العالمية

».

تحول قيادي بلا استراتيجية واضحة

على أن التحول الحرج في قيادة القاعدة المركزية التي فقدت أغلب رموزها القدامى، لم يكن وفقًا لاستراتيجية محددة أو مدروسة، فرغم نجاحه في التكيف والتعافي من الضربات المتكررة وإحراز بعض النجاحات الجزئية في مواجهته مع خصومه، لم ينجح التنظيم في صياغة رؤية شاملة أو إعادة رسم أهدافه لتتواءم مع طبيعة إمكانياته ونشاطه الحالي.

ويكشف الإصدار الأخير لأيمن الظواهري الذي بثَّته مؤسسة السحاب (الذراع الدعائية) في 13 مارس/آذار 2021 بعنوان «

الروهينجا جرحُ الأمة كلها

»، طبيعة المعضلة الاستراتيجية للقاعدة. ففي ظل الانتكاسات التي تعرضت لها القيادة المركزية، وانشغال الأفرع الخارجية بأولوياتها الخاصة، دعا أمير القاعدة – ظهر صوتيًّا للمرة الأولى منذ سبتمبر/أيلول 2019 – لتشكيل تحالف قتالي للدفاع عن الأقليات المسلمة في أنحاء العالم.

وتمثل تلك الدعوة عودة لسردية القاعدة التاريخية التي تراجعت بشكل لافت، مدفوعة بانشغال أفرعه الفاعلة بالصراعات المحلية التي تُسخر لها جل إمكانياتها التمويلية والعملياتية المتاحة، فضلًا عن أن تلك الدعوة ظلت غير محددة الملامح، كما خلت من أي خطوات تنفيذية مقترحة.

ويمكن القول إن إعادة طرح السردية القديمة مرتبط بجملة عوامل، منها الضغوط التي تعرض لها التنظيم والضربات التي تلقاها بجانب سعيه لكسب الحاضنة الشعبية التقليدية واستمرار حملة الإصلاح الداخلية التي بدأت منذ فترة لعلاج الخلل والمشكلات التي يعاني منها، وشملت مراجعات ذاتية للاستراتيجيات والتكتيكات، وتوسيع قاعدة المشاركة في

مجلس القاعدة القيادي/مجلس الشورى العالمي

وضم أعضاء جدد له من أمراء الأفرع المحلية.

ومن الواضح أن قيادة التنظيم المركزية تحاول استعادة جزء من أدوارها التشغيلية والتكتيكية التي خسرتها خلال الفترة الماضية، والعودة إلى درجة مناسبة من الفاعلية، تؤهلها للاستمرار في طليعة حركة الجهاد المعولم لا سيما بعد التعافي النسبي لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» الذي ظهر خلال الأشهر الماضية، وتأكيد الأخير على استمراره في مسار موازٍ ومغاير للقاعدة، بما يهدد مكانته الذاتية.

مستقبل مشوب بالتحديات

في سياق متصل، يبدو مستقبل القاعدة مشوبًا بالضبابية والتحديات الكبيرة، فحتى مع نجاحه في استيعاب المتغيرات العملياتية والتغلب على خسارة قادته المخضرمين من قدماء الجهاديين، والتكيف في البيئات المضطربة وتأمين مصادر تمويل فريدة ومتنوعة بدءًا من الاتجار في الأحجار الكريمة، وليس انتهاءً بالعملات الرقمية، ما زال التنظيم يواجه تحديات داخلية وخارجية مؤثرة.

ولعل التحدي الأبرز حاليًّا هو اختيار البديل المناسب للظواهري – حال وفاته/مقتله – فمع أن أغلب الخبراء في شؤون التنظيم يرجحون

تولي محمد صلاح زيدان، الشهير بسيف العدل، إمارة التنظيم

، فإنه من غير المؤكد أن يمر اختياره بسهولة، خصوصًا في ظل صعود جيل جديد داخل القاعدة، أغلبه ممن انضموا للتنظيم خلال العقد الماضي وانخرطوا في أفرعه المحلية في سوريا واليمن والمغرب الإسلامي وغيرها، إذ كانت تلك الأفرع في قلب العاصفة طوال السنوات الماضية، بينما قبع رموز القيادة المركزية في جنوب آسيا وداخل إيران متخفين من الملاحقة الأمريكية والدولية.

وربما يشكِّل مكوث سيف العدل في إيران أحد الأسباب التي تطعن في شرعيته القيادية بذريعة التقارب والعمالة للنظام الإيراني الذي يمثل خصمًا رئيسيًّا لفرع القاعدة السوري/تنظيم «حراس الدين»، بغض النظر عن صحة تلك الادعاءات.

وفي المقابل، قد يؤدي وصول جهادي مخضرم، كسيف العدل، لإمارة القاعدة إلى إحداث تغيير جذري في بنية التنظيم وأدائه المعتاد، ويُتوقع أن تلعب الخبرة الطويلة للأمير القادم دورًا مهمًّا في صياغة مستقبل الحركة الجهادية، إذ تُشير الخبرة السابقة لإلى أنه لم يتعرض لكل تلك الانتكاسات إلا بعد خسارة قائده الكاريزمي أسامة بن لادن.

ومن المؤكد أن تنظيم القاعدة سيستفيد من تراجع الاهتمام العالمي بمكافحة الإرهاب، خاصةً مع انكفاء العديد من الدول على نفسها وانشغالها بعلاج تداعيات جائحة كورونا، وتركيز إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن على

الصراع الجيوسياسي مع القوى الكبرى

المنافسة لبلاده، كما سيمنح الانسحاب الأمريكي المتوقع من أفغانستان للقاعدة فرصة ذهبية لإعادة بناء شبكته في منطقة خراسان (أفغانستان وباكستان)، وسائر مناطق جنوب آسيا، مستفيدًا من علاقاته الوثيقة مع حركة طالبان الأفغانية.

وفي ظل حالة عدم اليقين الحالية، لا يمكن الجزم بما إذا كانت محاولات إصلاح تنظيم القاعدة ستنجح أم لا، لكن التجارب السابقة تشير إلى أن التنظيم لن يتخلى عن علامته/مسيرته الجهادية وسيستمر في السعي لاستهداف الولايات المتحدة وحلفائها ومحاولة تكرار هجمات 11 سبتمبر، فبعد 10 سنوات كاملة من فشل محاولة عمر الفاروق النيجيري تفجير طائرة أمريكية متجهة إلى مدينة ديترويت بتوجيه من الفرع اليمني للقاعدة، سعى شولو عبد الله الكيني بتوجيه من حركة الشباب الصومالية لتنفيذ هجوم مشابه، وكأن التنظيم أراد بذلك التأكيد على نفس المعاني التي تضمنتها

رسالة ابن لادن للرئيس الأسبق باراك أوباما

، في 2010، وهي: «لو أن رسائلنا إليكم تحملها الكلمات لما حملنها إليكم بالطائرات.. وعليه فغاراتنا عليكم ستتواصل»، ولعل هذا التصميم يُعطي إضاءة كافية على الوضع المستقبلي لتنظيم القاعدة الذي ما زال في قلب اللعبة الصراعية على الرغم من معاناته التنظيمية الحالية.