تم إنتاج تلك المادة ضمن إصدار «إقامة جسور بين الضفتين: مراجعة للمجتمع المدني في دول المتوسط» الذي أصدره مشروع



«حوار المتوسط للحقوق والمساواة» (Med Dialogue for Rights and Equality)



، وهو برنامج ممول من قبل الاتحاد الأوروبي بهدف دعم دور المجتمع المدني في المنطقة الأورومتوسطية (حوض البحر المتوسط)، وتعتمد المادة على المسح الذي أجراه المشروع لنشاط مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة وأولوياتها.

لا يزال تطوير العلاقات بين ضفتي الشمال والجنوب رهنًا إلى حد بعيد بدعم المواطنين لا سيما الفاعلين في المجتمع المدني أكانوا منتظمين أو غير منتظمين في جمعيات، وبفكرة أنه من الملح إعطاء زخم جديد للحوار الأورومتوسطي والانتقال إلى مستوى أعلى بهدف التغلب على التحديات التي تقف في درب تحقيق الأهداف المرجوة من هذا الحوار.

ترمي الأهداف التي جاء في إعلان برشلونة الذي شكل باكورة ولادة عملية برشلونة، والتي نحتفل في عام 2020 بالذكرى الخامسة والعشرين لها إلى تحويل «حوض المتوسط إلى مساحة حوار وتبادل وتعاون يضمن السلام والاستقرار والازدهار الذي يستوجب تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة والمتوازنة وتدابير مكافحة الفقر والترويج لتفاهم أكبر بين الثقافات» (إعلان برشلونة، 1995، ص2). ولكن أهداف الإعلان هذه ناهيك عن أهداف جميع اتفاقيات العمل المبرمة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في عملية برشلونة لم تتحقق بعد.

يسجل في داخل المجتمع الدني الأورومتوسطي توافق شامل حول أن المؤسسة المعنية بالحوار الأورومتوسطي، أي الاتحاد من أجل المتوسط، تصطدم بحائط مسدود على الرغم من المشاريع الكثيرة التي ساهمت في تطبيقها. وبالإضافة إلى ذلك، يفترض كل من إعلان برشلونة واتفاقات العمل المبنية على مبادئ حقوق الإنسان مثل الحريات والديمقراطية، بأن التحرر الاقتصادي يؤدي حكمًا إلى التحرر السياسي.

ولكن ليست هذه هي الحال، فالمنطقة تعاني صعوبات اقتصادية واجتماعية شديدة على الرغم من تحرير العلاقات الاقتصادية بين الضفتين: وهذه حالة اعترفت بها هيئات المفوضية الأوروبية في إطار إدارة الهجرة، وبمناسبة مقابلة أجريت مع مسئول من الاتحاد الأوروبي بشأن الاحتكار التونسي.

قبل كانون الثاني/يناير 2011، كانت تونس التي تعتبر شرارة انطلاق الربيع العربي، مثال التلميذ المجتهد بالنسبة إلى أوروبا، إلا أنها لم تطبق بعد الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي لا غنى عنها.

جدير بالتنويه بأن المشاكل التي تعانيها دول الجنوب والتي تستوجب إرساء الديمقراطية وتحديث الاقتصادات ومعالجة حالات التوتر في المنطقة هي مشاكل لم تتأثر بالمشروع الأورومتوسطي. وهناك خطر بأن تكون الشراكة استمرارية «لإصلاحات من دون إدخال أي تغييرات» وهي نموذجية في تاريخ المنطقة المعاصر.

وبالفعل، يتضح من تاريخ بناء أوروبا أن الاتحاد لا يقتصر على بناء الاقتصاد بل يتعداه إلى بناء السياسة والمؤسسات الديمقراطية وضمان استدامة الاتحاد بصرف النظر عن مواطن التوتر. ويجب أن ينطبق الأمر نفسه على العلاقات الأورومتوسطية التي تخضع لضوابط مزدوجة. فمن جهة، من الصعوبة بمكان التغلب على مواطن الشرخ التاريخية المتصلة بالإرث الاستعماري ناهيك عن الرغبة في تنفيس احتقان الرأي العام الأوروبي الذي غالبًا ما ينظر إليه على أنه منكفئ إلى ذاته وخاضع لضغوطات إعلامية غير مسبوقة غالبًا ما تصور الإسلام بطريقة مشوهة، الأمر الذي أنتج سياسة دفاعية تبنى بالدرجة الأولى على رؤيا ديمغرافية و«أمنية».

ومن جهة أخرى، يصطدم تدخل الاتحاد الأوروبي في المتوسط باختلاف وجهات النظر بين الدول الأعضاء في ما يخص الوضع الجغرافي للمتوسط والدور الذي تستطيع أوروبا أن تضطلع به هناك. فالتهديدات الإرهابية المتواصلة وأزمة الهجرة تزعزع الوضع على الضفة الجنوبية من المتوسط وتشيع حالة اللا ثقة في العديد من الدول الأوروبية لاسيما منها الشرقية. لا يمكن معالجة هذا التعارض إلا بواسطة إطار عمل مؤسسي متين وحسن البنية.

البناء على عملية برشلونة

منذ ولادة عملية برشلونة، أصر المجتمع المدني بإلحاح على ضرورة تحقيق الاستدامة على مستوى الحوار الأورومتوسطي. لا يمكن تحقيق هذه الرؤيا طويلة الأمد إلا من خلال مؤسسات مستدامة. هذا ما تم التأكيد عليه بصورة متواصلة منذ الإعلان النهائي للمنتدى المدني الأورومتوسطي الذي نظمته المنصة الأورومتوسطية غير الحكومية في مراكش بتاريخ 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2006 والذي جاء فيه: «نحن على بينة من الدور الحساس الذي باستطاعة سياسة الجوار الأوروبي أن تضطلع به لجهة إشراك المجتمع المدني. وعلى هذا الصعيد، يجب إقامة حوار مع شتى مكونات المجتمع المدني داخل إطار العمل المؤسسي لاتفاقيات الجمعية…» إلى حين انعقاد ورش العمل بين دول الجنوب والتي شكلت جزءًا من رؤيا المتوسط لعام 2030 (ورش عمل Vision Med 2030 لعامي 2019 و2020).

تم مؤخرًا قياس التزام المجتمع المدني المتوسطي سيما في الجنوب في خلال تمرين الإحصاء الذي أجراه برنامج حوار المتوسط حيث اتفقت منظمات شبكة المجتمع المدني التي شملها المسح في المنطقة بشدة (57.1%) ووافقت (29.6%) أي ما مجموعه 86.7% على فكرة إقامة فضاء مؤسسي متوسطي مشارك.

من بيانات المسح الذي أجراه مشروع حوار المتوسط لمؤسسات المجتمع المدني في المنطقة

/ Med Dialigue

تفيد بيانات أخرى من المسح بأن هذه المنظمات توافق بشدة (61.2%) وتوافق (32.7%) على فكرة العمل معًا في سبيل الترويج لإقامة مساحة متكاملة مع سياسات مشتركة مما يمثل نسبة إجمالية قدرها 93.9%.

لا يمكن وضع حد لهذه المقاربات المجتزأة ومفرطة الحذر إلا من خلال حوار مستدام وممأسس يحضره فاعلون منتخبون ويشارك فيه ممثلو المجتمع المدني وذلك بهدف إقامة مشروع طموح وشامل للتلاقي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والذي من شأنه أن يعزز فرص التبادل.

إن تفاقم حالات انعدام المساواة والفقر والتمييز يرغمنا على إسقاط حواجز اللا ثقة وعدم الفهم التي تفاقمت بين شعوب الشمال والجنوب لاسيما لمصلحة شباب الضفتين الذين يرغبون في إسقاط هذا الحاجز. يتشارك الشباب الطموح نفسه: بناء مجتمعات أكثر إنصافًا ودعمًا مبنية على حكم القانون واحترام التعددية والتقدم المشترك.

تعرض الشباب لموجات متصاعدة من التطرف تنادي بالاختلاف على أشده والازدراء المتبادل. فثقافات المتوسط مختلطة ويعتبر مئات الآلاف من مواطني المتوسط ذوي الجنسية المزدوجة من الشمال والجنوب دليلاً ساطعًا على هذا.

عانت ضفتا المتوسط نتيجة التفكك والتشتت بين الشمال والجنوب من خلال العقود المنصرمة. ومن الممكن إقامة تحالف جديد بين مختلف دول المتوسط وباستطاعة الأجيال الشابة أن تكون القوة الدافعة لذلك. وبالفعل، يمكن أن يولد منتدى تعاون وتضامن جديد بشرط أن تعمل المجتمعات المدنية في سبيل التقريب بين ضفتي المتوسط وتحقيق مكاسب حقوقية جديدة.

نضال مجتمعنا

ليس إنشاء أسرة أورومتوسطية حقيقية حلمًا، بل يمكن أن يكون الأخير نضال جيلنا. ولكي يتحقق هذا الحلم، يجب أن يكون راسخًا في مشروع مؤسسي يربط الاتحاد الأوروبي بدول جنوب المتوسط حيث تضطلع منظمات المجتمع المدني بدور أساسي. والمجتمع المدني من حيث طبيعته، يمارس سلطة مقابلة تتحقق من تجاوزات الدول، وهو متنوع وتمثيلي ويسمح بولادة نخب جديدة وبرصد وافتضاح تجاوزات السلطة والفضائح والمخاطر البيئية وسواها، وهو يخفف النقاش ويشجع المواطنين على المشاركة في الحياة العامة ويدافع عن المصالح العامة، وبالتالي يعيد الثقة في الديمقراطية.

يجب أن تتضمن المؤسسة الأورومتوسطية هيئة تشاورية من منظمات المجتمع المدني تكون قابلة للتجديد على غرار مكونات أخرى. ويجب أن تكون قادرة على أخذ المبادرات من أجل التحفيز على النقاش كما من أجل اقتراح مواضيع على جدول أعمال الهيئات التداولية. ومن شأن نشأتها أن تسهم بإعادة التفكير في التعاون الكلاسيكي الحالي وسياسات المساعدة وأن تعطي معنى جديدًا لمصطلح «الشراكة» يكون أقرب إلى توقعات شعوب المتوسط. وأخيرًا، من شأن المؤسسة الجديدة أن تعيد إحياء الالتزام الأوروبي في المتوسط؛ وأن تقدم أدوات تحكيم جديدة تخفف من التوتر الناتج عن الهجرة ومن الأزمات الخطيرة التي تتهدد السلام في المنطقة.

لم يكن لدى الاتحاد من أجل المتوسط سوى وزن قليل لمعالجة المشاكل التي تسبب اضطرابًا في المنطقة؛ ظل دوره محدودًا وبالتالي تم تحييد الاتحاد الأوروبي برمته لدى إدارة أزمات المنطقة. من شأن مؤسسة جديدة أن تعيد إلى الاتحاد الأوروبي الوزن الضروري له بحيث يتمكن المتوسط من إعادة إحياء تاريخه كمساحة أمان وتنمية وتضامن. في حال لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من الاضطلاع بهذا الدور، فمن الممكن أن تصبح الولايات المتحدة أو الصين الشريك المثالي الجديد لدول المتوسط. وعليه، لا بد من الاعتراف بأهمية منطقة المتوسط بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن للاستقرار والازدهار الاقتصادي في منطقة المتوسط إلا أن يكون عاملاً محفزًا على التنمية الأوروبية.

يمكن التعامل مع المشاكل الخطيرة التي تضطرب بسببها المنطقة مثل أزمة الهجرة والتدفق المتواصل للمهاجرين إلى شواطئ إيطاليا الحرب في ليبيا والتوتر بين تركيا واليونان بموجب إطار العمل المؤسسي الجديد هذا، بهدف إيجاد حلول مستدامة. وبالفعل، تعتبر مسألة إطار عمل معالجة المنازعات والمشاكل القائمة مسألة أساسية. يعرب المجتمع المدني عن إرادة جديدة تتمثل بإرادة منطقة الأورومتوسط في الذهاب أبعد من الرؤيا الضيقة للتبادلات الاقتصادية حصرًا، ومعالجة التحديات ككل.

إن إقامة إطار عمل مؤسسي جديد يستوفي معايير القانون العام الدولي لدول المتوسط ودول الاتحاد الأوروبي تشكل مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة. فليس من مصلحة أوروبا التخلي عن حدودها الجنوبية. إن إقامة مؤسسة أورومتوسطية جديدة تتضمن جميع دول الاتحاد الأوروبي ودول الشاطئ الجنوبية تمثل الإجابة الأكثر أمانًا واستدامة لمعالجة المخاطر الكامنة أمامنا، على ما أظن. وتبدو هذه الفكرة بعيدة المنال ولكنها مدعومة من الغالبية القصوى للفاعلين من المجتمع المدني ومن الشباب ومن الملايين من سكان المتوسط الذين يحملون جنسيتين والذين يطمحون إلى إقامة علاقات جديدة أكثر توازنًا ودعمًا وكرمًا.

إن حمَلَة الجنسيتين الذين يمثلون المجموعة السكانية الأكبر الناشئة عن العلاقات بين الضفتين، قد يصبحون العامل الأساسي لدمج الضفتين لكونهم يحملون في ثناياهم هذه الثنائية الثقافية التي تسلط الضوء على المشاكل من جانبين هم جانب بلد المنشأ، وجانب بلد الإقامة.

يسهم هذا العامل في وضع الأمور في نصابها ومقاربتها من منظور مزدوج أو متعدد الجوانب. وعليه، فهو يمثل عامل تسامح وقوة باتجاه تحقيق مفهوم العيش المشترك الذي يمكن أن يوضع في خدمة الإرادة السياسية المشتركة بالاستناد إلى شكل أكثر توازنًا وتشاركًا من أشكال التعاون بين دول الشمال والجنوب.

باستطاعة المؤسسة الأورومتوسطية الجديدة التي نعول عليها أن تحدث أثرًا شاملًا في حال بنيت على رغبة المواطنين حملة الجنسيتين في اختبار الجنسية المزدوجة كسبيل إلى التعايش الذي يضع جانبا الاختلاف ويسعى إلى التخفيف من التوتر من خلال إعادة النظر في حدود الدولة-الأمة. هذا ويرى العديد من فعاليات المجتمع المدني بأن المؤسسة الجديدة يجب أن تذهب أبعد من الروابط الحالية بين الدول وأن تدمج جمعيات من الممثلين المنتخبين ديمقراطيًا في الدول الأورومتوسطية ناهيك عن جمعية من منظمات المجتمع المدني التي يمكن أن تضطلع بدور الرقيب.

إن فكرة إقامة مؤسسة أورومتوسطية مستدامة تنسجم انسجامًا كاملا مع الميل الحالي باتجاه إقامة فضاءات إقليمية جديدة متكاملة. باستطاعة التعاون الأورومتوسطي متسلحًا بالجرأة والأفكار الجديدة أن يحقق انتعاشًا متكافئًا مع حجم التحديات في المنطقة.