في فترة زمنية قصيرة جدًا احتل سلاح الطائرات المسيرة مكانة محورية في الحروب بعدما أثبت فعاليته الفائقة ورخص تكاليفه بشكل كبير؛ فلا مقارنة بين تكلفة طائرة تقليدية وأخرى مسيرة، مما فتح الباب واسعًا أمام استخدامها في المواجهات الحربية وعلى الأخص من جانب الدول التي تعاني قصورًا في سلاح الطيران.

وحققت أنقرة تفوقًا لافتًا في تطوير هذا السلاح، وأضحت تجارة المسيّرات وسيلة جديدة لتوسيع النفوذ السياسي التركي، بعد أن نالت شعبية وانتشارًا كبيرين، بسبب أدائها في سوريا وفي الحرب الليبية في صيف عام 2020، ثم بعد ذلك بأشهر في مرتفعات إقليم ناغورني قره باغ حيث سببت خسائر فادحة للجيش الأرميني الذي استسلم أمام قوات أذربيجان المدعومة تركيًا، كما تحدثت تقارير دولية عن أن طائرات بيرقدار التركية قلبت موازين الحرب لصالح الحكومة الإثيوبية في حربها ضد جبهة تحرير تيجراي بعدما كانت التوقعات تشير لقرب سقوط العاصمة أديس أبابا في قبضتها.

وقد

اشترت العديد من الدول هذه الطائرات

أو وقعت عقودًا لشرائها من أنقرة، ومن بينها دول عربية وأوروبية وآسيوية، وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أكتوبر تشرين/الأول الماضي «في أي مكان أزوره في أفريقيا يسأل الجميع عن الطائرات المسيرة».

وتسهم هذه المبيعات في تعميق النفوذ التركي في الخارج، خاصة في المناطق التي توليها أنقرة أهمية خاصة مثل الدول التركية في آسيا الوسطى، فهناك محاولات لتشكيل فضاء أمني مشترك يجمع تركيا بتلك الدول خاصة بعد الحرب الأذرية-الأرمنية، ولذلك يحرص الأتراك على بيع أسلحتهم لتلك الدول.

كابوس الروس في أوكرانيا

أبدت المسيرات التركية أداءً قويًا خلال الأيام الماضية في صد الغزو الروسي لأوكرانيا، ونشرت السفارة الأوكرانية في تركيا، السبت، على حسابها الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي، تويتر، فيديو يظهر استهداف البيرقدار لرتل عسكري روسي وتحويله كله إلى بقايا حطام في مدينة خيرسون جنوب البلاد، مصحوبًا بتعليق «على الغزاة الروس أن يتحملوا بيرقدار»، ونقلت وكالة رويترز عن السفير الأوكراني بأنقرة، فاسيل بودنار، أن بيرقدار أظهرت فاعلية كبيرة في القتال ضد الروس.

كما انتشرت على مواقع الإنترنت عشرات من مقاطع الفيديو تظهر طائرات البيرقدار التركية تفتك بجحافل الجيش الروسي الذي لا يبدي أية مقاومة لتلك الطائرات، مما أوقع خسائر بشرية ومادية فادحة في صفوفه، ونشر ضباط أوكرانيون فيديوهات يتحدثون فيها عن دور هذا السلاح في حسم المعارك، وفي المقابل نشرت جهات تابعة لموسكو

خبرًا

عن تمكنها من إسقاط اثنتين من تلك الطائرات.


وروج الروس

لفكرة عدم فعالية هذه الطائرات في أوكرانيا لأنها أرض مستوية يمكن رصدها بسهولة من مسافة كبيرة بخلاف مرتفعات قره باغ التي كانت تضاريسها تمكن بيرقدار من مراوغة الرادارات هناك، كما أنها ذات سرعة منخفضة نسبيًا ويسهل إسقاطها بالمدافع المضادة للطائرات، أو صواريخ الدفاع الجوي بانتسير قصير المدى، وتعقبها من لحظة الإقلاع وحتى الهبوط، وبث التلفزيون الروسي صورًا لحطام مسيرة البيرقدار قال إن جيش النظام السوري المسلح روسيًا استهدفها بالبانتسير في محافظة إدلب.

لكن أداء بيرقدار في الحرب الحالية في أوكرانيا كذب تلك الدعاية الروسية؛ فقد اكتسبت المسيرات أهمية متعاظمة بعد الخسائر الكبيرة التي ألحقها القصف الروسي بالمطارات الأوكرانية مما ساهم في زيادة اعتماد كييف على هذه الطائرات خلال المعارك ضد الروس.

وكشف تقرير لوكالة بلومبرغ عن صفقة مسيرات سرية وقعتها أنقرة مع كييف العام الماضي، توصل إلى أن عدد مسيرات البيرقدار التي استلمها الجيش الأوكراني أكبر بكثير مما هو معلن، وأن الصفقة اشتملت على صواريخ أيضًا.

وقد زار أردوغان كييف مطلع فبراير/شباط أي قبل الغزو الروسي بأسابيع ووقع اتفاقًا لبدء تشييد مصانع عسكرية تركية على الأراضي الأوكرانية، مما زاد من سخط الروس على أنقرة التي عليهم ترد دائمًا بأنها تبيع تلك الطائرات دون أن تتحمل أي مسؤولية عن كيفية استعمالها، وشددت مؤخرًا على أنها لن توقف بيعها إلى كييف إرضاءً لموسكو.

أيقونة العسكرية التركية

بعد الحظر التسليحي الغربي على تركيا بعد غزوها لقبرص في السبعينيات، بدأ الأتراك في محاولات تحقيق الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان تحسبًا لتكرار مثل هذا الموقف. وفي عهد حزب العدالة والتنمية، تكثفت تلك الجهود، ولمع اسم المهندس التركي أوزدمير بيرقدار، مؤسس شركة «بايكار» عام 1984 التي تصنّع مسيـّرات «بيرقدار» الشهيرة، وأُطلق عليه لقب «

أبو المسيرات التركية

».

وقد نشأ بيرقدار في أسرة فقيرة وقاد فريق عمل لدراسة هذه التكنولوجيا وإجراء تجارب لتطوير نماذج لتلك الطائرات، وأنتج نماذج مختلفة من الطائرات المسيرة أشهرها Bayraktar TB2 التي أنتجت عام 2014 وأصبحت فخر الصناعات العسكرية التركية وتستطيع التحليق لمدة 27 ساعة، وتحمل 150 كيلو جرامًا من المتفجرات، والطائرة أقنجي في عام 2021 التي تمتاز بالقدرة على جمع المعلومات وتطير لمدة 24 ساعة متواصلة وتحمل 1350 كيلوجرامًا من الذخيرة.

بعد وفاة أوزدمير بيرقدار في أكتوبر/تشرين الأول خلفه ابنه سلجوق زوج سمية ابنة الرئيس أردوغان، في إدارة الشركة وهو حاصل على شهادتي ماجستير من جامعة بنسلفانيا عام 2004 ومعهد ماساتشوستس عام 2006 بالولايات المتحدة، وعمل مديرًا فنيًا لشركة بايكار منذ عام 2007.

كما أنتجت شركة «

الصناعات الجوية التركية

» الطائرة تاي آق سنقر التي تستطيع البقاء في الجو 12 ساعة متواصلة في حالة الحمولة القصوى 750 كيلو جرامًا وبدون هذه الحمولة تستطيع التحليق ليوم كامل، ومن المقرر أن تزيد إلى 40 ساعة بحسب التوقعات، وكذلك طائرة تاي أنكا التي تحلق لمدة 24 ساعة، وتحمل أسلحة وزنها 250 كيلو جرامًا تتنوع ما بين الأسلحة الدقيقة والصواريخ الموجهة بالليزر وأخرى مضادة للدروع.

وتنتج أنقرة أيضًا طائرات مسيرة انتحارية تصيب الهدف وتنفجر عند اصطدامها به على غرار طائرة «ألباغو»، كما تعمل شركتا ترانسفارو وهافلسان التركية للصناعات الإلكترونية والجوية، على إنتاج نظام للتصدي للطائرات المسيرة المعادية وتدميرها باستخدام طائرات كاميكازي الانتحارية.

وتمثل الحرب الحالية في أوكرانيا فرصة لاستعراض قدرات المسيرات التركية التي ظلت لفترة طويلة حكرًا على القوى العظمى، لكنها اليوم تتصدى لثاني أقوى جيش في العالم وتتصدر المشهد القتالي في العديد من الساحات.