صرّح نائب رئيس الوزراء

سعد الشامي

خلال مقابلة لأحد التليفزيونات المحلية يوم الأحد، 3 إبريل/نيسان 2022، «للأسف
الدولة مُفلسة وكذلك البنك المركزي… لذا لدينا مشكلة… الخسارة حدثت». وأضاف أن
توزيع الخسائر سيجري بين الدولة ومصرف لبنان المركزي.

خلّفت هذه التصريحات هزة كبيرة في الرأي العام اللبناني،
وتوالت التصريحات الرسمية لمسئولين لبنانيين تعليقًا على هذا التصريح. فمن جانبه
عقّب رياض سلامة –حاكم مصرف لبنان المركزي- قائلًا: «ما يتم تداوله بشأن إفلاس
البنك المركزي غير صحيح». وأضاف أن البنك لا يزال يقوم بواجباته المنصوص عليها في المادة
70 من قانون المال والائتمان، من حيث الحفاظ على سلامة العملة اللبنانية والاستقرار
الاقتصادي للبلاد. بينما أكّد رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، بأنه يعتقد أن نائبه كان
يتحدث عن «السيولة وليس الملاءة».

إن التصريحات المتضاربة تشي بتعقد أكبر لأزمة الديون
اللبنانية، ليس فقط في القدرة على السداد، ولكن أيضًا في كفاءة إدارة الدين والتنسيق
بين الحكومة والبنك المركزي، من أجل الوصول إلى خطة سداد ممكنة وبأقل فاتورة
خسائر.

مؤشرات الأزمة

تشير مؤشرات الاقتصاد الكلي في لبنان إلى تعقد أزمته، والتي لاحت في الأفق منذ العام 2014، واشتدت حدتها في العام 2019، ثم أخذت في التفاقم حتى الوقت الراهن.

فتشير بيانات البنك الدولي إلى أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي هبط بنسبة 10.5% في 2021 في أعقاب انكماش نسبته 21.4% في 2020. كما انخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان من حوالي 52 مليار دولار أمريكي في 2019 إلى 21.8 مليار دولار في 2021، وبذلك قد سجل انكماشًا نسبته 58.1%، وهو أشد انكماش على مستوى العالم.

ويضيف البنك الدولي في تقريره الأخير،

الصادر في يناير/كانون الثاني المنصرم

، أن كلاً من: سعر الصرف للسحب النقدي مقابل الدولار الأمريكي، ومتوسط سعر الصرف الذي يحتسبه البنك الدولي، قد هبطا بنسبة 211% و219% (على أساس سنوي) على الترتيب، خلال الـ 11 شهرًا الأولى من عام 2021. وهو ما نتج عنه ارتفاع حاد للتضخم، الذي يُقدَّر أن معدله بلغ في المتوسط 145% في 2021، ليسجل ثالث أعلى معدل على مستوى العالم بعد فنزويلا والسودان.

أمّا
عن الدين العام، فيُقدِّره البنك الدولي بنسبة 183% من إجمالي الناتج المحلي في
2021، ليُسجِّل لبنان رابع أعلى نسبة مديونية في العالم بعد اليابان والسودان
واليونان.

هل تفلس الدول؟

إن مصطلح «إفلاس الدولة» غير دقيق، ولكنها عوضًا عن ذلك
تعجز عن سداد القروض المُستحقة عليها للدائنين.

قديمًا كان هذا العجز يُستخدم كذريعة سياسية لغزو أو
احتلال الدول المتعثرة في سداد مديوناتها. أمّا حديثًا؛ فإنه يُستخدم كذريعة
للتدخل السياسي في الشئون الداخلية للدولة وللاقتصاد، وفرض ضغوطات خارجية عليها.

ومن هذه الناحية، فإنه لا جديد في إعلان لبنان عجزه عن
سداد القروض المستحقة على الحكومة اللبنانية، حيث سبق أن أعلنت الحكومة عجزها عن
سداد 1.2 مليار دولار مستحقات لسندات «اليورو بوند» في مارس/أذار 2020، أي قبل الإعلان
عن جائحة كورونا.

أسباب أزمة السداد في لبنان

إن العجز عن سداد المديونيات يرجع –بالأساس- لأسباب تمويلية ومالية، ناتجة عن السياسة النقدية داخل الاقتصاد، مثل سياسات سعر الصرف وسعر الفائدة والسيولة المحلية وغيرها. لكن الأكثر تأثيرًا وأهميةً هي الأسباب الهيكلية المتعلقة بالاقتصاد الحقيقي وكيفية إدارته. وبمعنى أدق، فإن الاختلالات الهيكلية داخل الاقتصاد الحقيقي هي التي أنتجت الاختلالات المالية والنقدية، والتي بدورها قادت إلى العجز عن السداد.

1. الاختلالات الهيكلية

إن بناء هيكل الاقتصاد اللبناني يجعله تابعًا وضعيفًا، وغير قادر على مواجهة الأزمات. إذ لا يعتمد الاقتصاد اللبناني في حصوله على النقد الأجنبي على مصادر إنتاج حقيقية، كالصادرات الزراعية أو الصناعية أو الاستثمار الأجنبي بنوعيه المباشر وغير المباشر، لكنه يعتمد على مصادر لا تصمد أمام الصدمات وغير مستقلة، وهي الخدمات، لا سيما عائدات السياحة وتحويلات اللبنانيين من الخارج وأموال المنح والقروض. وكلها مصادر لا ترتبط بالإنتاج الوطني.

علاوةً على ذلك، فإن الاقتصاد اللبناني هو ضحية للإدارة
الفاسدة التي يمتد فسادها لعقود، والقائمة على الطائفية وتزاوج المصالح. إذ يتورط مسئولون
حكوميون كبار وعدد من قادة الطوائف والأحزاب في ممارسة أعمال فساد وتحقيق أرباح
طائلة من وراء نفوذهم، دون الخضوع لرقابة ومحاكمة فاعلة من الجهات المنوطة بذلك.

2. الأسباب المالية والنقدية

تتصل الأسباب المالية والنقدية بسياسات مصرف لبنان وكيفية تعامله مع الاختلالات الهيكلية وسوء إدارة الحكومات اللبنانية المتعاقبة لاقتصاد البلاد. إذ كان جزءًا أصيلًا من تفاقم الأزمة ومتواطئًا مع الحكومات. وفيما يلي نتناول أهم هذه الأسباب:

مخطط بونزي

بهدف رفع حجم النقد الأجنبي؛ لجأ مصرف لبنان إلى اعتماد سياسة أسعار الفائدة المرتفعة لجذب أموال المودعين عمومًا، وعلى الإيداعات الدولارية خصوصًا، حتى تجاوزت الـ 15%. وفي المقابل؛ فإن آلية البنوك الأساسية في الوفاء بشروط الفائدة المرتفعة والتزاماتهم تجاه المودعين هي سداد أموال المودعين الأوائل بأموال المودعين الجدد. وعليه؛ فإنه عند انخفاض حجم الإيداعات الجديدة فإن البنوك سوف تجد نفسها متعثرة وغير قادرة على سداد حقوق المودعين. وذلك فيما يعرف بـ «

المخطط البونزي

».

على الجانب الآخر؛ أدت أسعار الفائدة المرتفعة إلى ارتفاع كلفة تمويل الاستثمارات الجديدة، وبالتالي تراجعت الاستثمارات الوطنية في القطاعات الحيوية والخالقة للوظائف مثل الصناعة والزراعة والطاقة، بينما نمت الاستثمارات في القطاع العقاري تحديدًا. قاد ذلك إلى فقاعة عقارية على حساب دعم القطاعات الإنتاجية.

وفي المحصلة؛ فإن اعتماد مخطط بونزي نتج عنه تعثر البنوك في سداد مستحقات المودعين، بالتزامن مع ضعف الأرباح وتراجع الاستثمارات في القطاعات القائدة للنمو الاقتصادي.

فشل الهندسة المالية

في محاولة جديدة لبناء احتياطي من النقد الأجنبي ورفع قيمة الليرة اللبنانية، قام مصرف لبنان باعتماد سياسة «الهندسة المالية» في العام 2016. حيث قرر أولًا استبدال سندات دين من الخزينة اللبنانية بالعملة المحلية -تُقدر بحوالي 2 مليار دولار أمريكي- بسندات دين بالعملات الأجنبية (اليورو بوندز وشهادات إيداع)، وذلك بفائدة تتراوح ما بين 6.25-6.85%. بالإضافة إلى ذلك قام المصرف بشراء سندات الخزينة اللبنانية من المصارف الخاصة بقيمتها الاسمية وباستحقاقات أقل من 12 سنة بالإضافة إلى فوائدها غير المستحقة، والتي تتراوح ما بين 7.08-8.74%.

ومقابل ذلك يبيع مصرف لبنان سندات العملة الأجنبية
للمصارف الخاصة (2 مليار دولار) وشهادات إيداع أصدرها بالدولار (

بقيمة 11 مليار دولار

)، مقابل تدفقات مالية من الخارج بالعملات الأجنبية تحوّلها المصارف
الخاصة.

باءت هذه السياسة بالفشل، وانتهت إلى تفاقم الديون الخارجية للبنان، ثم أعلن لبنان عدم قدرته على سداد الدفعة الأولى من مستحقات اليورو بوندز عقب حوالي ثلاثة أعوام من إصدارها.

تفاقم أزمة السيولة في المصارف اللبنانية

واجه اقتصاد لبنان تجفيفًا مُضطردًا لمصادر النقد الأجنبي منذ العام 2014، فمع بداية أزمة النفط وتدهور أسعاره في هذا العام، تأثرت بشدة تحويلات المقيمين بالخارج وبمنطقة الخليج العربي على وجه الخصوص. كما تأثرت التجارة الخارجية بين لبنان وسوريا والعراق بسبب المخاطر الجيوسياسة، إلى جانب ذلك تراجعت السياحة.

وعليه؛ فقد استمر الحساب الجاري، والذي يقيس مدفوعات
المعاملات الخارجية للاقتصاد في تحقيق عجز متزايد، وبذلك تناقصت السيولة الدولارية
بالقطاع المصرفي.

ومنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول 2019، تفاقمت الأزمة المصرفية وتعرضت المصارف لأزمة سيولة حادة، وتوقفت تدفقات رأس المال، وهو ما دفع إلى إعلان «

عطلة البنوك

» وفرض قيود صارمة على عمليات السحب المصرفي، بل وإغلاق بعض البنوك. كما ظهرت سوق سوداء للعملات الأجنبية.

ومع فرض القيود الصارمة المصرفية، والتراجع الحاد لقيمة الليرة اللبنانية،

تم سحب 6 مليار دولار

من القطاع المصرفي اللبناني في غضون أسبوعين فقط، ولم يُعرَف بعد منْ المُتسبب في سحب هذا المبلغ الهائل في ظل تصاعد الأزمة. وخلال العام 2020، لم يعد بإمكان اللبنانيين سحب أموالهم بالدولار.

وتشير

البيانات

إلى أن البنوك
التجارية قد خسرت ما يقرب من 49 تريليون ليرة لبنانية من الودائع في العامين 2019
و2020، أي ما يعادل حوالي 22% من إجمالي الأصول الحالية. إلى جانب ذلك بلغت الفجوة
التمويلية في الميزانيات العمومية للبنوك وللبنك المركزي ما يقرب 83 مليار دولار في
2020.

إن الأوضاع متفاقمة السوء التي يشهدها القطاع المصرفي بلبنان تشي بوجود تضخم بالقطاع نفسه، حيث تضخمت الأصول التي يملكها 40 بنكًا لتصل

إلى167%

من الناتج الاقتصادي للبلاد في ذروتها الأخيرة في عام 2015. وعليه فقد تصاعدت الحاجة إلى انكماش القطاع المصرفي وتقليص عدد البنوك، وهو ما أصبح يسعى إليه البنك المركزي في لبنان في الوقت الراهن.

انكشاف مصرف لبنان المركزي

إن أسوأ ما اقترفه مصرف لبنان وأدى إلى تفاقم الأزمة الراهنة، هو الانكشاف التام على الدولة والانحياز إلى الميزانية العمومية للدولة على حساب أموال المودعين. حيث تم تحويل الودائع المحلية بالدولار إلى أدوات حقوق ملكية. فمثّلت السندات الحكومية أغلب أصول البنوك اللبنانية. وفي مارس/أذار من العام 2020 أعلنت الحكومة اللبنانية عدم قدرتها على سداد قيمة هذه السندات البالغة

1.2 مليار دولار

، وهو ما أسفر عن خسائر ضاربة بالبنوك المتعثرة أصلًا.

ويستمر هذا النسق المنحاز للميزانية العمومية، إذ تضمنت موازنة العام 2020 اقتراحًا

بتحويل نصف خدمة الدين إلى مصرف لبنا

ن. ونتيجة لذلك، انخفضت خدمة الدين من 4.99 مليار دولار في عام 2019 إلى 663 مليون دولار في مشروع ميزانية، بينما تم تحويل هذا الفارق إلى الميزانية العمومية لمصرف لبنان، والتي يتحمل المواطنون خسائرها في نهاية المطاف.

ما الجديد؟

كما سبق القول إن إعلان لبنان عدم قدرته على السداد ليس
بالجديد. فما الذي يعيد الحديث الآن حول هذه الأزمة؟

إن الحكومات لا يمكن الحجز على ممتلكاتها لصالح الدائنين، وعليه فإن الحل الأمثل لمعالجة الأزمة هو إعادة جدولة الديون وتخفيض قيمة السندات بالتنسيق بين الحكومة من جهة والدائنين من الجهة الأخرى. وقد بدأت لبنان في ذلك قبل نحو العامين، وتصدرت فرنسا هذه الجهود، إلا أنها قد باءت بالفشل.

فخلال العامين الماضيين تعرّض اقتصاد لبنان لضربات قوية أودت بما تبقى لديه من قوة، ويأتي على رأسها جائحة كوفيد-19، والتي أدت إلى ركود حاد للناتج المحلي الإجمالي، كذلك أدى انفجار مرفأ بيروت إلى تدمير مخزون السلع والواردات الإستراتيجية في لبنان، وخلّف دمارًا هائلًا بوسط بيروت، احتاج إلى أموال ضخمة لإعادة الإعمار وتعويض الضحايا.

وجاءت تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية الأخيرة، لتزيد الأمور تعقيدًا، حيث أثّرت سلبًا على مخزون لبنان من الحبوب، الذي تعتمد فيه على أوكرانيا، كذلك تضخمت فاتورة النفط في لبنان إثر ارتفاع أسعاره.

إزاء ما سبق؛ تعلن الحكومة اللبنانية عجزها مرة أخرى عن
سداد المديونية، حتى بعد إعادة جدولتها، وتطلب إجراءات أكثر فعالية لتخفيض قيم
السداد ومد آجاله.