حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، أوائل فبراير/ شباط الماضي، أن قواتها نجحت في

قتل خليفة داعش (السابق)، أبو إبراهيم القرشي

، خلال عملية عسكرية في إحدى القرى الحدودية شمال غربي سوريا، التزم التنظيم الصمت، واكتفى بإيراد بيانات تبنى هجمات نفذها مقاتلوه في مناطق جغرافية مختلفة، طوال أكثر من شهر، وبعد تلك المدة

اعترف داعش بمقتل خليفته

ووزيره أبو حمزة القرشي المُهاجر، معلنًا تنصيب زعيم جديد أطلق عليه اسم «أبو الحسن الهاشمي».

وجاء اختيار أبي الحسن الهاشمي، خليفة لتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، متأخرًا بصورة لافتة، بالمقارنة مع سلوك التنظيم عندما قُتل زعيمه الكاريزمي أبو بكر البغدادي، إذ أعلن متحدثه الرسمي (أبو حمزة القرشي المهاجر- آنذاك) اختيار أبي إبراهيم الهاشمي بعد نحو 3 أيام فقط من مقتل البغدادي، ليبدو التنظيم قويا ومتماسكًا ومتفاعلًا مع الأحداث بصورة كبيرة، وهو ما لم يحدث في اختيار الخليفة الحالي، وسط

رواج معلومات عن وجود خلاف داخل مجلس الشورى (أعلى هيئة قيادية لداعش)

، حول شخصية خليفة القرشي.

وحاول التنظيم، لاحقًا، نفي الأحاديث المتداولة عن وجود خلافات وانقسامات داخل قيادته العليا، فذكر متحدثه الجديد

أبو عمر المهاجر

، في كلمته الصوتية المعنونة بـ«فمنهم من قضى نحبه»، أنه لم ينشب أي خلاف في اختيار الخليفة الجديد الذي زُكي من قبل سلفه أبي إبراهيم القرشي، لتولي الإمارة العامة للتنظيم، وأُقر من قبل مجلس الشورى، الذين يصفهم التنظيم بـ«أهل الحل والعقد»، لكنه تجنب الكشف عن هويته الحقيقية واكتفى بوصفه بأنه «الشيخ المجاهد الجليل والسيف الصقيل.. ومن أهل السبق والصدق»، مردفًا أنه «لو أمكن لكشفنا عن اسمه ورسمه لكن لكل مقام مقال».

حيلة قديمة بدعوى «فقه الاستضعاف»

لم تكن تلك المرة الأولى التي يُخفي فيها داعش هوية خليفته، مستندًا إلى تأويلاته الحركية الخاصة لما يسميه «فقه الاستضعاف»، بل لجأ لتلك الحيلة في أكثر من مناسبة منها اختيار

أبو إبراهيم القرشي

، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، والذي تجنب التنظيم الكشف عن هويته الحقيقية، رغم إعلان الولايات المتحدة الأمريكية والتحالف الدولي لحرب داعش (قوة المهام المشتركة- عملية العزم الصلب)، أنه حجي عبد الله قرداش أو أبو عمر التركماني، (هناك اختلاف بين أبي عمر التركماني، وأبي عمر قرداش الأمني، الذي كان أحد أمراء داعش الأمنيين في المنطقة الشرقية السورية، قبل أن يُقتل، في وقت سابق باعتراف أسبوعية النبأ الداعشية)، وكذلك انتهج التنظيم نفس النهج عند تنصيب أبي بكر البغدادي لإمارة «دولة العراق الإسلامية» (نسخة داعش الأسبق)، الذي قال عنه أبو محمد العدناني، المتحدث الرسمي وقتها، إنه «عالمٌ عاملٌ عابدٌ مجاهد، ولو كان يمكنني لكشفت لكم عن اسمه ورسمه..».

غير أن عودة داعش لأسلوب تجهيل أو إخفاء هوية أمرائه، يدلل على استمرار التنظيم في اتباع نهج عسكري بحت مغلف بطابع الأمننة في ما يتعلق بقيادته العليا، في مقابل تراجع واضح لتأثير النهج الجهادي الأيديولوجي الذي يُوجب الإعلان عن هوية «الأمير»، لكي تصح بيعته وفقًا لشروط الأحكام السلطانية (المتعلقة بالخلافة والإمارة).

وكان التنظيم قد غلب النهج الجهادي الذي يميل له المقاتلون والقادة الأيديولوجيون (وفي القلب منهم المقاتلون الأجانب أو المهاجرون)، على نظيره العسكري الأمني الذي يميل له القادة العسكريون والأمنيون (وفي مقدمتهم القادة العراقيون، أو الأنصار كما يُطلق عليهم داعش)، لحظة إعلان الخلافة المكانية، استنادًا على فتوى أصدرها أبو همام الأثري (تركي البنعلي)، أمير مكتب «الدراسات والبحوث الشرعية» و أحد أبرز شرعيي داعش، بوجوب

خروج الخليفة (أبو بكر البغدادي، حينئذ)

للناس بشخصه حتى تنعقد له البيعة، قبل أن ينقلب على هذا الخيار الفقهي بدعوى زوال مبرره وانتهاء فترة «التمكين»، التي صدرت الفتوى خلالها استنادًا لما يُسميه التنظيم بـ«فقه التمكين».

عسكريون
وجهاديون أيضًا

ولا تُعد سيطرة القادة العسكريين على «داعش»، أمرًا مستغربًا بالنظر إلى سياقات تطوره، فمنذ البدايات المبكرة لتأسيس نواته، تنظيم «دولة العراق الإسلامية»، ركز التنظيم على دعوة العسكريين العراقيين الذين خدموا في جيش الرئيس الأسبق صدام حسين بالانضمام له، وخصص الأمير الأول للتنظيم أبو عمر البغدادي، (سلف أبو بكر البغدادي)، جزءًا من كلمته الأولى، «وقل جاء الحق وزهق الباطل» (ديسمبر/ كانون الأول 2006)، لدعوة الضباط من رتبة ملازم إلى رتبة رائد بالانضمام لتنظيمه، واعدًا إياهم بتوفير المسكن والمركب والراتب المناسب لكي يحيوا حياة كريمة، وفق تعبيره.

وجذبت التنظيمات الجهادية وفي مقدمتها تنظيم دولة العراق الإسلامية (الذي عُد جزءًا من شبكة تنظيم القاعدة العالمية، حتى الشقاق الجهادي بينهما في عام 2014)، العسكريين العراقيين الذين وجدوا أنفسهم منبوذين وبلا عمل، في ظل سلطة الاحتلال وما تلاها من حكومات، بعد إصدار الحاكم المدني الأول

للعراق بول بريمر

كل الكيانات والمؤسسات العسكرية والأمنية والاستخبارية العراقية، وسرح العاملين بها، حتى دون أن يمنحهم رواتب تقاعدية.

وشكل العسكريون إلى جانب الجهاديين العراقيين من غير العسكريين، الخزان البشري الذي اعتمد عليه التنظيم، في بناء دولته الأولى، كما يحلو له أن يسميها، خاصةً أن حضور وتأثير الجهاديين الأجانب (المهاجرين)، كان قد تراجع نتيجة جملة من الأسباب، منها الصعوبات التي حالت دون وصولوهم إلى العراق،والقبض على العشرات منهم وسجنهم في بلاد الرافدين، وكذلك تأثر الجهاديين الأجانب بحملات الدعاية التي استهدفت تنظيم القاعدة في العراق ثم تنظيم دولة العراق الإسلامية، والتي ساهمت في عزوف عديدين عن الانتماء له، علاوة على أن هؤلاء الجهاديين اختيروا لتنفيذ العمليات الانتحارية، والانغماسية، وهو ما ساهم في تقلص عددهم بصورة كبيرة، حتى وصلوا أواخر عام 2007، إلى 200 مهاجر فقط، باعتراف أبو عمر البغدادي في كلمته الصوتية «فأما الزبد فيذهب جفاءً» (ديسمبر- 2007).

وبحلول عام 2010، فقد الجهاديون الأجانب (المهاجرون)، آخر أبرز قادتهم

أبو حمزة المهاجر المصري

(عبد المنعم عز بديوي)، الذي قُتل برفقة أميره أبو عمر البغدادي، في عملية استخبارية شاركت فيها القوات الأمريكية والعراقية، بمنطقة الثرثار في محافظة صلاح الدين، شمال بغداد، بينما تعززت سيطرة العسكريين العراقيين على مقاليد الأمور داخل التنظيم، وأشرف

حجي بكر

(سمير عبد محمد الخلفاوي الدليمي- العقيد السابق بالاستخبارات العسكرية إبان حكم صدام حسين)، على إعادة بناء وترميم الشبكات التنظيمية المتضررة، ولعب دورًا بارزًا في اختيار أبو بكر البغدادي ليكون أميرًا للتنظيم، رغم أن الأخير لم يكن معروفًا لدى القيادة العامة لتنظيم القاعدة، التي كان لها حق إقرار أمراء تنظيم دولة العراق الإسلامية أو الاعتراض عليهم، بحسب ما تؤكده مراسلات بين أسامة بن لادن، ومسؤولي العمليات الخارجية في القاعدة، والمنشورة ضمن وثائق «آبوت آباد».

تراجع
الأيديولوجيا وصعود التنظيم

وشهدت الفترة التي أعقبت تولي أبو بكر البغدادي، إمارة تنظيم دولة العراق الإسلامية، سلسلة من التغيرات التي صبت في مصلحة التنظيم، منها الانسحاب الأمريكي من العراق، واندلاع موجة الثورات في العديد من البلدان العربية، ومنها الثورة السورية التي دخلت طور العسكرة، مما أتاح للتنظيم التغلغل والتمدد داخل الدولة المجاورة، وإنشاء فرعه المعروف بـ«جبهة النصرة»، قبل أن يحل الفرعين السوري والعراقي ويدمجهما في «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، والتي عُرفت إعلاميًا بـ«داعش»، قاطعًا بذلك صلته مع تنظيم القاعدة بحجة أن الأخير بدّل منهجه الجهادي وتحول إلى تنظيم يجري خلف ركب الأكثرية، وفق وصف «أبو محمد العدناني»، في كلمته الصوتية «ما كان هذا منهجنا ولن يكون».

ونجح داعش، في تلك الفترة، في ترميم تنظيمه المتضرر عبر عمليات «هدم الأسوار» التي شملت اقتحام السجون التي يُحتجز فيه عناصره وقادته وتهريبهم، وكذلك استقطاب الجهاديين الأجانب (المهاجرين)، واستيعابهم في الساحة السورية التي عاشت في تلك الفترة حالة من السيولة الأمنية والعسكرية والحركية، بيد أن المكون العسكري ظل مُسيطرًا على التنظيم بصورة لافتة، في مقابل تراجع تأثير المكون الشرعي، وصار العقل الإستراتيجي للتنظيم يُفكر باعتباره رأسًا لمنظمة تمرد مسلح نموذجية لكن بمسحة جهادية.

لكن احتياج داعش للشرعيين في تلك الفترة أبقى لهم تأثيرًا واضحًا، خصوصًا في عمليات الحشد الأيديولوجي، والمغالبة الحجاجية في إطار الصراع الأيديولوجي الذي دار بين التنظيم وأنصاره من جهة، وبين خصومه من القاعدة والفصائل السورية الأخرى، ولذا عملت القيادة العسكرية للتنظيم الأول على اجتذاب الشرعيين بأي صورة، دون إجراء تدقيق كبير في خلفيتهم المنهجية أو قناعتهم الفكرية الخاصة، وبالتالي اجتمع داخله مجموعة من الشرعيين متبايني الاتجاهات، مع أن هذا التباين بقي مطمورًا في داخل الدوائر التنظيمية المنغلقة والمشغولة بالسجال الجهادي مع خصوم «الدولة»، كما تصفهم.

وبدأ منحنى هذا السجال ينحدر تدريجيًا، بعد إعلان الخلافة المكانية في صيف العام 2014، لأن قيادة داعش العليا قفزت عليه، معتبرةً أنها أقامت خلافة بحد السيف وأن خليفتها صار إمامًا متغلبًا تجب طاعته بعد أن بايعه أهل الحل والعقد في «التنظيم»، مدللةً، بصورة مباشرة، على أن الأيديولوجيا السلفية الجهادية التي بشرت بـ«الخلافة الراشدة»، منذ انطلاقتها الأولى، تراجعت لصالح «شبه سلفية جهادية» ترسخ لفكرة حكم الغلبة أو الحكم الجبري، الذي حاول الجهاديون القضاء عليه بالقوة ليصلوا إلى «الخلافة»، وفق قناعتهم العقدية.

وفي حين صعد التنظيم إلى ذروته بعد تأسيس دولته الجهادية الخاصة وأنشأ لها الدواوين (الوزارات)، وصك لها العملة المزعومة (

الدينار الذهبي

)، تراجعت الأيديولوجيا نسبيًا وبقيت غائمة وعامة بشكل كبير دون تحديد دقيق حتى مع المحاولات الحثيثة والفاشلة، في آن واحد، لتأطير هذه الأيديولوجيا بصورة محددة، كما جرى تهميش الشرعيين الذين يمثلونها تارة بإرسالهم إلى ساحات القتال للتخلص منهم، بسبب معارضتهم لرؤية القيادة العليا التي يديرها العسكريون، كما حصل مع

أنس النشوان

و

عثمان آل نازح

،

وتارة بالتحقيق معهم واختبار عقائدهم عبر لجان الرقابة المنهجية

كما حصل مع تركي البنعلي وأبو بكر القحطاني، وتارة أخرى بتقليص نفوذهم وحصر أغلبهم في مكاتب شرعية كمكتب «البحوث والدراسات» الذي حول من ديوان إلى مكتب أصغر من الناحية الهيراركية والوظيفية، قبل أن يُضم مع بقية الهيئات الشرعية إلى «المجلس العلمي» المحدود والذي أنشأته القيادة العليا، لفترة وجيزة في 2018، قبل أن تحله بدعوى زوال الحاجة لوجود الهيئات الشرعية، في ظل الانشغال بالدفاع عن ما تبقى من «الخلافة»، التي سقطت في مارس/ آذار 2019.

مستقبل
محفوف بالمخاطر

وكشفت تلك الأحداث أن القيادة العليا لداعش غير عابئة بالمسائل الشرعية بقدر اهتمامها ببقاء التنظيم، حتى ولو على حساب الأيديولوجيا السلفية الجهادية التي بُني عليها بالأساس، وهو ما تجسد في مواقف عدة، منها عندما أغلق حجي عبد الله قرداش (أبو إبراهيم الهاشمي، الخليفة السابق له)، النقاش في المسائل الشرعية وحل الهيئات القائمة عليها، قائلًا: «آني ما يهمني كل هذه المسائل أن يهمني الدولة»، إضافة لقوله بلهجته العراقية المميزة «ما نطاطيها ولا نعطيها لناس ما نعرف من وين راس أبوهم»، في إشارة إلى الشرعيين من الجهاديين الأجانب (غير العراقيين)، الذين انتقدوا عسكرة التنظيم وتنحيته للجانب الأيديولوجي.

ونجحت تلك القيادة، في السيطرة على داعش، إلى حد كبير عبر سلسلة من العمليات الأمنية والتنظيمية، إلا أن تلك السيطرة تبقى «سيطرة قلقة» مرشحة للتقويض في أي لحظة، بفعل

التحولات التي تتم في داعش

، وهو ما يهدد باختفاء التنظيم أو تحوله إلى منظمة هجينة تختلف نسبيًا عن صورته الجهادية التقليدية، لا سيما وأن الجيل الجديد الناشئ في صفوفه لا يُعد جهاديًا أو عسكريًا بالمعنى الكامل، فهو جيل أقل رسوخًا من الناحية المنهجية، وأقل خبرة من الناحية العسكرية.

ويبدو أن قيادة داعش الحالية تناست، في خضم الضغط الأمني والعسكري الذي تعرض له التنظيم منذ 2014، أن التنظيمات الجهادية هي بالأساس تنظيمات أيديولوجية لا مؤسسات عسكرية قائمة على فكرة الجندية والسمع والطاعة للأوامر، وأن تحول هذه التنظيمات إلى جيوش تقليدية يُهدد بفنائها، وهو ما حذر منه سابقًا زعيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن الذي رفض عسكرة التنظيم لكي يبقى وينتشر، بفعل الأيديولوجيا، حتى ولو فقد قيادته الكاريزمية كما يفقد داعش حاليًا.