كما حاولنا أن نوضح في المقال السابق فإن فكرة خلف الله عن تأثر القصص بنفسية النبي، وبالتالي إمكان معرفة بعض وقائع سيرته النفسية من خلالها، قد اقتصرت نتائجها عنده على التأريخ لمشاعر النبي الناتجة عن معاناته في دعوة قومه، أي عن مشاعره النفس-خارجية فحسب.

وقلنا أن هذا الاقتصار مرتبط بقصره صفة الأسطورية على بعض قصص القرآن دون بعضه الآخر الذي يوصف عنده بأنه قصص تمثيلي أو قصص تاريخي لا أسطورية فيه -وهو القصص الذي يتعلق بماعاناة الأنبياء في دعوة قومهم، و أن الأمرين:

تضييق أبعاد نفسية النبي، ونفي الأسطورية عن معظم القصص، مرتبطان باشتغال خلف الله من داخل تصور الاتصال بالله كوحي عمودي لنبي مصطفى، حيث في هذا التصور لا أهمية لمشاعر النبي في لحظة الاتصال التي تفقد كل حيويتها لتتحول للحظات انتظار بارد لزيارات جبريل بقِطع من نص مكتمل في الأزل، مما يقصر الاهتمام على المشاعر الناتجة عن مكابدة الدعوة أفقيا.

على عكس ذلك رأينا كيف أن تصور الاتصال بالله بصورة أكثر جدلية تكشف عن دور النبي فيه هو ما يفتح الباب للتساؤل عن المشاعر التي يمر بها النبي لحظة الاتصال حيث تكتسب الصلة نفسها أهمية كبيرة في تصور كهذا، وأن كشف هذه المشاعر «النفس-داخلية» المرتبطة لحظة الاتصال -أو التأريخ لسيرة النبي الروحية- ممكن جدا عبر القصص القرآني، لكن فقط بعد كشف أسطوريته، وبعد إعادة تعريف الأسطورة بشكل يوضح أهميتها الرمزية في الكشف والتعبير عن تجارب الإنسان الحدية، ويتجاوز كونها مجرد كذب أو اختلاق يخالف الحقيقة التاريخية أو العقلية.

وما سنحاول القيام به هنا هو توضيح كيف أن فكرة خلف الله هذه لها كثير من الجذور التي ربما لم يلتفت لها خلف الله نفسه. حيث أننا نجد في التراث الإسلامي ذاته استخدام لقصص الأنبياء في التأريخ لسيرة النبي الروحية -و إن تم هذا الاستخدام دونما تنظير كهذا الذي قدمه خلف الله وحاولنا تطويره.

لكن هذا بالطبع لن يتم داخل علوم المدونة الرسمية من كلام وفقه وحديث والتي تحتفظ بتصور خاص للقرآن ينفي منه الأسطورة ويرسمه كأصل مفارق معطى لنبي، تصوِّره هذه المنظومة كرجل لا يعاني شيئا في نيل النبوة ولا في صنع القرآن أكثر من محض التلقي؛ و إنما نجد هذا الاستخدام للقصص على حواف هذه المنظومة العالمة أو الرسمية في بؤرة التقاء الدين الشعبي بالفن الشعبي حيث استخدام هذا الأخير للقرآن في بناء حكاياته وسيره مجردا إياه من كل أصلية وفاتحا الباب لالتقاط أسطورية قصصه كاشفا بها ومعبرا عن الحدود الإنسانية مثل العنف والجنس والدين.



نجد هذا الاستخدام للقصص على حواف هذه المنظومة العالمة أو الرسمية في بؤرة التقاء الدين الشعبي بالفن الشعبي

بالطبع تواجهنا هنا مشكلة أن مصطلحات مثل «الفن الشعبي» و«الدين الشعبي» هي مصطلحات تضعنا فورا أمام عدد من الصعوبات، تتعلق أولا بالمعيار الذي ينقسم به الدين أو الفن لرسمي وشعبي أو بماهية المتغيرات الرئيسة الدافعة لهذا التفريق؛ وهي معايير ومتغيرات اختلف في تحديدها العلماء والباحثون؛ لكن، وحتى يتسنى لنا في موضع آخر مناقشة الأمر تفصيلا، فالمتغير الذي نعتمده هنا للتفريق هو العقلنة والنظام ووجود تصور عام لسلوك ومعتقد قويم -ولطريقة تعبير قويمة في الفن- كخصيصة للتدين والفن الرسمي في مقابل اللاعقلانية والعفوية وغياب نظام عام لسلوك ومعتقد قويم كخصيصة للتجلي الشعبي لهما.

وتتعلق هذه الصعوبات ثانيا ببعض ما قد يوهم به تفريق كهذا بين شعبي وعالم؛ فقد يوهم -على الأقل لأول وهلة- بانفصال تام بين ما هو شعبي وما هو عالم، وهذا أمر تكذبه الوقائع حيث أن العلاقة بين الشعبي والعالم معقدة للغاية وجدلية، بحيث لا تقتصر حتى على محاولات ما هو عالم تدجين ما هو شعبي عن طريق استخدام آليات للإدانة والدمج والإحاطة؛ بل أيضا تشمل ما يقوم به ما هو شعبي من محاولة استيعاب التصورات العالمة داخله وإخضاعها لمنطقه.

لذا فينبغي ألا يفهم من الحديث عن تدين وفن شعبي هنا وجود واقعي لتصورات شعبية عن الدين والفن ليس لها أية علاقة بالتصورات العالمة؛ فأمر كهذا لا يوجد إلا على مستوى التجريد أما الواقع فشديد التشابك. وهذا التجريد مفيد فقط كخطوة إجرائية نستطيع من خلالها التقاط السمات الأكثر عمومية للدين والفن الشعبي ومقارنتها بتلك الخاصة بالتصور العالم لفهم كيفية تعامل كل منهما مع القصص القرآني موضوع بحثنا هنا، و علاقة هذا الاستخدام للقصص بتصورهما للنبوة ولطريقة الاتصال بالله.

والحديث عن شعبي وعالم أو رسمي يفضي بنا حتما للتساؤل عن العلاقة بين العالم والرسمي، أو بين السلطوي والمعرفي. وهذه العلاقة ربما تكون أكثر ما تعرضت له الكتابات الحداثية حول التراث الإسلامي، مثل كتابات الجابري وأبو زيد، في محاولة لفك هذا الحبل السري بين المعرفة والسلطة بمصطلح الأخير.

ولكن هذه الكتابات غالبا ما اقتصرت في تفسير هذه العلاقة بين المعرفة والسلطة على العودة لعصر التدوين في الخلافة العباسية، وهناك من رجع قليلا للخلف عند تولي بنو أمية الحكم مع معاوية بإعتبار هذه اللحظة هي لحظة خلق تأويل سلطوي للقرآن وامتلاك لمعنى أحادي ومحاولة فرضه. لذا فإن ما يميز مقاربة التونسي يوسف الصديق لهذه الإشكالية عن المقاربات المذكورة آنفا هو اعتباره أن العلاقة بين المعرفة والسلطة في حياتنا الثقافية العربية ينبغي البحث عنها فيما هو أبعد من لحظة عصر التدوين، بل حتى أبعد من لحظة تولي معاوية.

فالصديق يعود بالإشكال إلى لحظة جمع القرآن في عصر الخليفة الثالث عثمان، حيث جمع القرآن كان يعني «مصادرة سلطة أمناء الذاكرة الشفهية أي القراء»(1). فقد أصبحت القراءة محددة بحدود المصحف العثماني وحرفه، وتم التخلص من بقية المصاحف، وتحوّل القرآن في هذه اللحظة لكتاب مغلق ونهائي ومفصول عن زمانيته وتاريخيته، حين تم إهمال الترتيب التاريخي الذي نزل به القرآن لصالح ترتيب قيل إنه توقيفي.



تأسس القرآن ككتاب يحدد الثقافة دون أن يتحدد بها، ويوجه الواقع دون توجه به، ويؤطر وجدان المتدينين بدلا من التفاعل معه

فبعد خطوة الجمع هذه انتقل القرآن من الظاهرة القرآنية للظاهرة الإسلامية بتعبير أركون(2). وهذا الانتقال كان له أكبر الأثر على التعاطي مع القرآن، حيث نتج عن هذا الجمع غير المراعي لتطور القرآن في التاريخ و ا المراعي كذلك لحيوية التجربة التي عاينها النبي وضمها القرآن، فصل للقرآن عن النبي مقابل دور صغير أعطي له هو دور الناقل لكلام الله -ابستيم البغبغاء بلغة سروش- (3).

ثم وعن طريق ما سماه أركون «صيغ التعظيم»، تم فصل القرآن عن واقع الحياة؛ حيث حتمت المؤسسة الأمينة على النص عددا من الطقوس على قارئه جعلت محاولة دمج القرآن في الإبداعات الشعبية كالسير والملاحم مستحيلة.

بهذه الآليات كلها تأسس القرآن «أصلا»، أي كتاب يحدد الثقافة دون أن يتحدد بها، ويوجه الواقع دون توجه به، ويؤطر وجدان المتدينين بدلا من التفاعل معه. كتاب واحد لا تعدد أصلي داخله. أصبح القرآن مصدرا لمعرفة الواقع وتنظيم المجتمع ومصدر كذلك للطريقة المثلى في التدين؛ مما يعني أن تأسيس السلطة السياسة تم بالموازاة مع تأسيس سلطة معرفية تحدد تعامل واحد ووحيد مع القرآن، و تنفي أي تعامل آخر. هذا التعامل هو أن القرآن كتاب معلق نهائي ناجز يعد مصدرا وحيدا للمعرفة والسلوك والتدين، حتى لو اختلفت بعد هذا نتائج التعاطي مع هذا المنهج الوحيد.

وفي ظل تصورات كهذه أصبح قصص القرآن حاكما ومهيمنا على ما سبقه، قاطعا في صحة بعضها وكذب الآخر. رُسِّخت هذا النظرة لقصصه كقصص حقيقي أو تمثيلي لا أسطورية فيه، وتم اعتبار الأسطورة هي محض الكذب يقع خارجه، كما نفي من التدين إمكانية تكرار وعيش تجربة النبي الفذة.

لكن هذا الشكل الجديد الذي أصبح عليه القرآن ككتاب منظِّم وحاكم لا كخطاب متفاعل، وللدين كنظام مؤطر، لم يكن ليعم كل المجتمع بسبب ضعف الآلة الأيدلوجية للسلطة الوسيطة، وعدم امتلاكها أدوات الدولة الحديثة التي تفرض عبرها تصوراتها القويمة. فحتى مع وجود مدارس تنشئها الخلافة كجهاز أيديولوجي غرضه تأطير المجتمع في تصور قويم واحد والتخلص من كل تصور آخر بدعوى البدعة -مثل النظامية أو الأزهر- أو وجود بيانات مثل البيان القادري الذي يحدد قانون إيمان، فلم يكن لها تأثير شديد ولم تحقق استمرارية إلا في النطاق الذي تسمح به السلطة المتقطعة ذاتها.

لذا فقد كان هناك بعض محاولات تتحرك على حافة المدونة الإسلامية الرسمية للخروج من هذه التصورات عبر إعادة القرآن للاندماج داخل فضاء الإبداع الشعبي وتخليصه من التحنيط الذي لحقه حين أُغلق، وحين حُددت الطرق الابستمولوجية للتعاطي معه. وكان هذا الدمج مرتبطا بتجاوز أصلية القرآن وهيمنته على ما سبق من كتب -وهي السمات التي تعيق هذا الدمج- ومرتبطا باستعادة تجربة النبي الحية.

مثلت كتب السير والمغازي والملاحم(4) أحد المواضع الجيدة لهذا الدمج للقرآن داخل فضاء القص الشعبي الذي يستلهم الأسطورة في خلق سردية كونية منفتحة على العجيب والمدهش(5). فقد استلهمت هذه الكتب قصص القرآن لكن كأحد حرتقات الأساطير السابقة على القرآن؛ وليس ككتاب حاكم عليها ومصحح لها كما هو الاستخدام الرسمي للقصص القرآني.



مثلت السير النبوية بؤرة أخرى يشترك فيها الفن والدين الشعبي، حيث تشترك السيرة في كثير من ملامحها مع الملاحم والسير الشعبية

في هذا السياق يصف تركي الربيعو كتابا مثل كتاب أخبار الملوك للطبري بأنه«كتاب ذو بنية ميثية توزاي القرآن وتتدحرج بجواره ككرة الثلج فتكبر حتى لتحجبه» (6)؛ مما يعني أن القرآن أصبح مجرد مرحلة وسيطة في سيرورة الأسطورة عبر حرتقاتها من ما قبل القرآن في الكتب السابقة لما بعد القرآن في كتب السير والأخبار.

وحين تقوم هذه الكتابات بهذا الاستخدام للقصص فإنها تستطيع وعن طريق تجاوز أصلية القرآن المحجرة له أن تعيد استنطاق آي القرآن والمضي بقصصه عن آدم وحواء، وابني آدم، والطوفان نحو معالجة الحدود الإنسانية الكبرى: الحب والموت والجنس والدين والعنف؛ أي أنها تكشف أسطورية هذا القصص.

في نفس السياق مثلت السير النبوية بؤرة أخرى يشترك فيها الفن والدين الشعبي. حيث تشترك السيرة في كثير من ملامحها مع الملاحم والسير الشعبية كما يرى بحق نصر أبو زيد، وحيث تحفظ هذه السير بعضا من التصورات عن النبوة والقرآن تخالف التصور الديني الرسمي عنهما -كقصة الغرانيق-، وتستخدم كذلك القصص القرآني والقصص قبل القرآني في محاولة سبر أغوار التجربة النبوية المنسية رسميا لصالح القرآن ككتاب مغلق ونهائي، وللنبي كناقل.


بين الغار والغرانيق:

تمثل قصة الغرانيق أو الآيات الشيطانية تحد كبير في مواجهة التصور الرسمي للنبوة، وفي مواجهة فكرة الاتصال كوحي عمودي. فهذه القصة التي تحكي ذكرى إلقاء الشيطان بعض الكلمات على لسان النبي ليقرأها على قومه تهز هزا فكرة الوحي كإرسال إلهي محفوظ من الاختراق. إنها تؤكد أن الانحراف متأصل في أصل الحقيقة ووحيها كما يقول فتحي بن سلامة.

وبالرغم من محاولات علماء الحديث نفي هذه القصة باعتبار ضعف سندها إلا أن هذه المحاولات لا تحسم الأمر قيد أنملة، حيث أن القصة حتى على افتراض اختلاقها تعبر عن تصور ما للوحي لم يكن غريبا على المتلقي، بدليل بقائها إلي حد سيرة ابن هشام، رغم تخلصه من كثير من القصص التي تعتبر عنده مشينة للنبي، أي أنها ظلت باقية إلى لحظة تبلور فكرة النبوة كاصطفاء، والاتصال كوحي عمودي.

وحينها فقط، تعرضت هذه القصة للإدانة الكاملة، حيث أنها تومئ إلي أن تصور الاتصال كوحي عمودي هو تصور متأخر لم يتبلور في بداية الإسلام، وإنما أخذ وقتا ليتطور. فقد كان على هذا التصور في تأسيسه ذاته أن يصارع ضد الكهانة أو الاتصال بالشيطان، وهو صراع يشهد عليه القرآن ذاته لو قُرئ بصورة تاريخية تتوخى تطوره الزماني في تأسيس نفسه. وتتجلى أعلى تجليات هذا الصراع في نفي القرآن قدرة الشياطين على التسمع -بعد أن كانوا قادرين عليه- وتأكيد وجود القوي الأمين كحامي للوحي.



القصة التي تحكي ذكرى إلقاء الشيطان بعض الكلمات على لسان النبي ليقرأها على قومه تهز هزا فكرة الوحي كإرسال إلهي محفوظ من الاختراق

كما أن هذه القصة تكشف لنا عن وعي كاتب السيرة بأهمية لحظة الاتصال، حيث أن هذه اللحظة هي التي تتمثل فيها العفوية واللاعقلانية التي يحتفي بها الفن والدين الشعبي المتمفصلين في نص السيرة، في حين يرفضها الرسمي الذي يعقلن الدين وينفي من داخله كل توتر.

هذا الاهتمام بلحظة الاتصال من كاتب السيرة يتجلى أيضا في قصة الغار وما لحق بها من قصص الانتحار والتدثير؛ فكل هذا محاولة لسبر أغوار تجربة الاتصال الأولى.

وهي محاولة نستطيع أن نلمس فيها استلهاما واضحا لقصص النبيين القرآنية في معاناتهم الوحي، خصوصا قصة يونس حين ذهب مغاضبا والتي تحدثنا في المقال السابق عن قصر خلف الله لها في التعبير عن ضيق يونس من قومه، في حين تبدوا لنا القصة -بتوسيع الأسطورة والأبعاد النفسية للنبي- معبرة عن محاولة هرب يونس من الله. وهذا الهرب هو جزء مكون لتجارب الاتصال الكبرى ينبع من الشعور بالخوف في مواجهة اللاقرار بلغة بوهيمة، حيث الجانب الإلهي المظلم العصي على الإدراك.

يعني هذا أن كتاب الملاحم والسير والأخبار، وبسبب وقوفهم على حافة المدونة الرسمية بطرائقها في المعرفة وتشكيل الدين، كانوا قادرين على حفظ تصورات أخرى للاتصال بالله غير تصور الوحي العمودي، وكانوا نتاجا لهذا سباقين في كشف أسطورية القصص القرآني وعلاقة هذا القصص بالسيرة الروحية للنبي التي مثلت جزءا من كتابتهم للسيرة.

أما عن عدم التفات خلف الله لهذا الاستخدام التراثي للقصص، والذي يتلاقى كثيرا مع فكرته، بالرغم من امتلاء كتابه بالعودة للتفسيرات التراثية الكبرى، هو أن خلف الله كغيره من رواد النهضة العربية لم يول اهتماما كبيرا لما هو خارج المدونة الرسمية من علوم؛ فلم يقفوا على ما فيها من إمكانات إلقاء أضواء مغايرة على نقاشاتنا المستمرة عن القرآن والوحي والنبوة، وعن الدين والسلطة والمعرفة.


هوامش:

(1) يوسف الصديق، هل قرأنا القرآن، ص77.

(2) يميز أركون في كتاباته بين (الظاهرة القرآنية) ويقصد بها القرآن في مرحلته الشفوية، وبين (الظاهرة الإسلامية) ويقصد بها القرآن بعد تدوينه وجمعه وما طرأ من تغييرات مرتبطة بعملية الجمع.

(3) لا شك أن القرآن نفسه يتضمن ترسيم نفسه كوحي عمودي ليس للنبي مشاركة فيه، لكن هذا يتعلق بالشكل الذي كان على تجربة النبي أن تتخذه في ظل مجتمع لا يوجد فيه ما يؤسس لاتصال بالله غير الوحي الكتابي، وإلا اعتبر مس شيطانيا. فقد أنقذت فكرة الوحي النبي محمد من اعتبار نفسه ممسوسا، وهو ما عبرنا عنه في موضع آخر بكون الوحي مثل حل إشكال الصمت المريمي الذي عاينه النبي محمد في تجارب الاتصال الأولى. لكن هذا الشكل للاتصال لم يترسخ إلا بعد خطوة الجمع التي قطعت الطريق على اعتبار هذا الشكل مجرد مرحلة أو صياغة للاتصال حتمتها الظروف الروحية للجزيرة.

(4) يلفت بسام الجمل في كتابه «دراسة عن أساب النزول» النظر للارتباط بين نشأة هذه العلوم وبين توقف نزول الوحي. فتوقف الوحي حفز إيجاد منافذ لاستعادة التجربة الفذة للنبي. كما أن جمع النص أدى لتحويل الدين لعلاقة بنص منجز يمثل أساس الثقافة والمجتمع مما همش الفعالية وأغلق الباب عن الغريب والمدهش في الدين. لذا نشأت هذه العلوم في محاولة لاستعادة هذا الغريب (ص50، 51).

(5) العجيب والمدهش والخلاب هو المفاجئ والنادر والمحير؛ وهو ما قد نفته علوم المدونة الإسلامية إلى حيز الآداب الشعبية فحسب لصالح تصورات ثابتة ومطلقة عن الماوراء كما يرى أركون في دراسته بعنوان «المدهش والخلاب» في كتابه «الفكر الإسلامي قراءة علمية». هذا رغم أن هذا العجيب المدهش ملاصق لتجربة التدين ولقاء الله الحافل بالرعب والانجذاب كما عبر أوتو في كتابه «المقدس».

(6) تركي علي الربيعو، العنف و المقدس و الجنس في الميثولوجي الإسلامي، ص33.