الحرب الباردة لم تكن قاصرةً على سباق التسلح والتقنية فحسب، أضاف لها الروس بعدًا أكثر حرارة، تضمن إرسال الجواسيس الروس وتجنيد المواطنين البريطانيين وقتل الخائن أيًا كان مكانه أو مكانته. لم تكن المعركة من الطرف الروسي وحده، دخلتها الاستخبارات البريطانية أيضًا.كان لكل من الدولتين جواسيس في بقاع أخرى من العالم لكن سجال الجاسوسية الذي دار بينهما طوال الحرب الباردة كان مميزًا. وجاءت ما يُشتبه في كونها محاولة اغتيال لـ «سيرجي سكريبال» وابنته «يوليا» لتثبت أن حرب الجواسيس لم تنته بعد. لم تختلف تلك الحادثة عن الحوادث التي سبقتها في شيء. عميل روسي ينقلب على دولته. يفرُّ إلى بريطانيا ويعمل لصالح استخباراتها. برودٌ روسي في التعامل مع الأمر. بعد سنوات يموت الجاسوس بشكل غامض. يتردد في الأذهان تصريح الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» أنه يسامح في أي شيء، أي شيء، إلا الخيانة!


نقاط في دائرة لا تنتهي


تاريخ الروس في الجاسوسية ضاربٌ في القدم، وتاريخ خيانات جواسيسهم لهم أقدم. الكولونيل «

أوليغ بنكوفسكي

» ضابط عالي الرتبة في الاستخبارات الروسية. عمل جاسوسًا مزدوجًا لصالح بريطانيا والولايات المتحدة. بنكوفسكي صاحب أهم دور في التاريخ الحديث، هو من أبلغ الولايات المتحدة تفصيليًا عن أماكن الصواريخ النووية السوفيتية في كوبا قبل ثلاثة أيام فقط من جاهزيتها للعمل.

أرادت روسيا من إطلاق الصواريخ النووية قلب كفة الحرب الباردة. بينما تستعد لذلك، كانت الإهانات تنهال يوميًا لمدة سنوات على بنكوفسكي بسبب تأييد والده للقيصر الروسي أثناء الحرب الأهلية. تولدت لديه الرغبة بالثأر فأبلغ الولايات المتحدة بمواقع الصواريخ. في 22 أكتوبر/تشرين الثاني 1962 تم القبض عليه. قضى أيامه الأخيرة في محاكمة هزلية للغاية ليُعدم بعدها في مايو/آيار 1963.

اقرأ أيضًا:

السبت الأسود وأزمة الصواريخ الكوبية

أما أوليغ الآخر فكان «أوليغ ليالين»، صاحب عملية كشف هي الأسهل على الإطلاق. شخص ثمل يقود سيارة مسرعة، أوقفه شرطي بريطاني. دخل ليالين سيارة الشرطة وصاح في الضابط أنا ضابط في المخابرات الروسية لا يمكنك الحديث معي هكذا. لم يبال أحد بما قاله وتم إخراجه بكفالة، لكن بعد حين تأكدت السلطات البريطانية من صدق ما قاله. عام 1971 انشق ليالين عن السوفييت وانضم لصفوف البريطانيين مخبرًا إياهم عن 105 دبلوماسيين وتجار روسيين يعملون جواسيس داخل بريطانيا مما تسبب في طردهم جميعًا.


ألكساندر: يقصم ظهور الروس

ألكساندر

الجاسوس الروسي المُنشق «ألكساندر ليتفينينكو » قبل وبعد تسميمه.


عام 2006 تلبدت سماء العلاقات الروسية البريطانية بالغيوم إثر

مقتل «ألكساندر ليتفينينكو»

. رجل يبلغ من العمر 43 عامًا، يدخل المستشفى نتيجة اشتباه في تسممٍ ما. الفحوصات أثبتت أنها مادة البولونيوم المشعة. مادة نفيسة لا يُقتل بها إلا أصحاب المكانة.

كان ضابطًا في جهاز الاستخبارات السوفيتي الـ «كي جي بي». ثم ذا شأن في خدمة الأمن الفيدرالي الروسي «إف إس بي» التي أتت بعد الـ «كي جي بي». كان يعمل تحت القيادة المباشرة للرئيس الروسي الحالي «فلاديمير بوتين»، لكن الأنباء تواترت عن خلافات دائمة بينهما بخصوص الفساد في الجهاز الأمني.

عام 1998 تم اعتقاله بتهمة التخطيط لاغتيال رجل أعمال روسي معارض هو «

بوريس بريزوفسكي

». ظل في السجن تسعة أشهر ثم كانت براءته. بريزوفسكي كان من بين الذين حملوا نعش ليتفينينكو في لندن، بجانب «أحمد زكاييف» الزعيم الشيشاني. عُثر على

بريزوفسكي مقتولًا

عام 2013 بعد مقتل ليتفينينكو بسبعة أعوام.

بعد خروجه من السجن ترك الجهاز وسافر إلى بريطانيا ومن هناك فجر قنبلته. «تفجير روسيا: الإرهاب من الداخل»، كتابه الذي فصل فيه تفجير الحكومة الروسية لشقق سكنية في موسكو عام 1999 ومن ثم إلصاق التهمة بالمتمردين الشيشان كذريعة للقيام بغزو ثانٍ للأراضي الشيشانية.قبل مقتله كان يعمل على قضية العلاقات الإسبانية بالمافيا الروسية، بجانب التحقيق في اغتيال الصحفية الروسية المعارضة «آنا بوليتكوفسكايا» في أكتوبر/تشرين الأول عام 2006. في تلك الأثناء كان يتقاضى راتبًا سريًا من وكالة المخابرات البريطانية «إم آي6».

شبهة مقتله تحوم بشدة حول عميلين روسيين سابقين هما «أندريه لوغوفوي» و«ديميتري كوفتون». التقيا معه في لندن وتناولا مشروبًا سقط بعده مغشيًا عليه.

قضى ليلته في القيء

ثم توالت الفحوصات التي تأكدت تسممه بمادة مشعة. وثبت ذلك أيضًا بعد القيام بتشريح الجثة وسط إجراءات وقائية هى الأشد في تاريخ العالم الغربي والطب.

لربما نجحتم أن تسكتوا رجلًا واحدًا، لكن عواء الثوار والأحرار حول العالم سيدوي، حتما سيدوي، ويزلزل الأرض. سيدوي أمام عينيك سيد بوتين. غفر الله لك ما اقترفته، في حقي، وفي حق روسيا الحبيبة وشعبها

ألكساندر ليتفينينكو – جاسوس روسي مُنشق

التحقيقات أشارت إلى لوغوفي لكن الجهات الروسية رفضت تسليمه واعتبرت القضية مسيسة. بعد التحقيق طردت بريطانيا 4 دبلوماسيين روس، فردت روسيا بالمثل. وبعد نضال لتسعة أعوام استطاعت أرملة ليتفينينكو في يناير/ كانون الثاني 2015 انتزاع حكم قضائي بضرورة بدء تحقيق علني. وبعد عام في 21 يناير/ كانون الثاني 2016 انتهى التحقيق إلى نفس النتيجة وأضاف أن الأمر ربما تم بموافقة مباشرة من بوتين.

حياة ليتفينينكو كانت حافلة بالأسئلة وجاء موته ليكشف عن المزيد منها. بعد وفاته أعلن والده أن

ابنه أعلن إسلامه

وطلب أن يُدفن وفق الشريعة الإسلامية، وقد كان. إذ أقيمت له صلاة الجنازة في أكبر مساجد لندن بحضور أهله بعد وضعه في تابوت محكم الغلق كي لا تتسرب منه المواد المشعة!


قصة جديدة بأحداث قديمة

سيرجي سكريبال

العميل المزدوج «سيرجي سكريبال».

بعد مشروب من حانة شعبية، ووجبة طعام من مطعم فخم وجد «

سيرجي سكريبال

» وابنته «يوليا» مغشيًا عليهما في إحدى الحدائق العامة. أمر اعتاده البريطانيون، لكن غير الاعتيادي أن يكون المغشي عليه عميلًا روسيًا برتبة عقيد، جندته الاستخبارات البريطانية ليصبح عميلًا مزدوجًا. انكشف أمره عام 2006 وحكم عليه بالسجن لـ 13 عامًا.

تفاصيل ما حدث ليست واضحة ولا يمكن وصف الأمر حتى الآن باعتباره اغتيالًا، فضلًا عن إلصاقه بالروس. لكن الحكومة البريطانية تتحدث بلهجة يقين حول هذه النقطة. ربما كان الحنق البريطاني نابعًا من الثمن الذي دفعته لإخراج سكريبال وثلاثة آخرين عام 2010، إذ قدمت مقابله 10 جواسيس روس منهم «

آنا تشابمان

».


لكن رئيس المختبر العسكري البريطاني «داون غاري آيتكنهيد» أعلن أن

المختبر لم يستطع

حتى الآن تحديد مصدر غاز الأعصاب المُستخدم في عملية التسميم. لكن المختبر استطاع معرفته وتحديد نوعه، «الوافد الجديد» هي الترجمة العربية للاسم الروسي للغاز. الغاز طُور في روسيا إبان الحرب العالمية الثانية، واستخدامه حكر على الجهات العسكرية وليس متاحًا لمن سواها، لكن لا يمكن الجزم بمصدر الجرعة التي تلقاها سكريبال.


لم يكن الانتصار لبريطانيا دائمًا

لم تكن النتيجة دائمًا في صالح بريطانيا كما قد توحي بذلك مواقف المذكورين أعلاه. بل كان هؤلاء فقط من انشقوا على الروس وباعوا ولاءهم للإنجليز. أما بقية الجواسيس الروس فهم على عقيدتهم الراسخة أن روسيا أولًا. وكما برعت بريطانيا في اكتشاف بعض الجواسيس، نجح البعض الآخر في اختراقها لدرجة أن يصير على بعد خطوة واحدة من أن يصير وزيرًا للاستخبارات البريطانية.

كان

كيم فيلبي

خامس «خماسي كمبردج». خمسة شباب درسوا في جامعة كمبردج العريقة استطاع الروس تجنيدهم مرةً واحدة لعقود. تدرج في جهاز المخابرات البريطاني حتى عُين مسئولًا عن التواصل مع واشنطن، فصار عميلًا ذهبيًا للروس ينقل لهم أخبار بريطانيا والولايات المتحدة.

كيم فيلبي – بريطاني عمل لصالح الاستخبارات الروسية

تسبب فيلبي في

فضح وقتل مئات العملاء

البريطانيين والأمريكيين. أقامت له موسكو في أكتوبر/تشرين الثاني 2017 معرضًا يروي سيرته الذاتية كأحد أساطير العصر الذهبي للجاسوسية الروسية. أنتجت الحكومة الروسية

فيلمًا وثائقيًا

من 3 أجزاء يحكي قصة حياته. هرب فيلبي من يد الاستخبارات البريطانية حين علم أنه سيتم اعتقاله بعد خيانة صديقته له، وإبلاغها السلطات عنه. وعلى ظهر سفينة شحن سوفيتية انتقل إلى موسكو ثم تبعته زوجته. عاش فيها دون أن يفهم اللغة الروسية قط، حتى مات عام 1988.


النتيجة

حتى تخون يجب أن تكون منتميًا أولًا، وأنا لم أنتمِ أبدًا لهذا النظام البريطاني المنافق.

حرب الجواسيس غالبًا قد انتهت بفوز روسيا في حربها. إذ استطاعت أن تثبت لعملائها صدقها في حمايتهم حتى عندما يتم القبض عليهم. كما أثبتت للجميع أنها قادرة على الانتقام بدم بارد ودون أي اعتبارات دبلوماسية.على النقيض من بريطانيا التي خسرت الحرب بصورة واضحة. فلم تستطع أن تنفذ عمليات اغتيال لعملائها السابقين الذين خانوها لصالح روسيا. كما انهزمت أمام تأمين روسيا لمن يحتمي بها. كذلك فإن حاجة بريطانيا لروسيا في ملفات سوريا وأفغانستان والبلقان ينذر بأن ردها لن يكون قويًا بالشكل الكافي حال ثبوت ضلوع روسيا في اغتيال سكريبال. كما أن خروجها من الاتحاد الأوروبي يعني أن الرد البريطاني مهما كان سيكون فرديًا ولن يؤثر على روسيا كما لو صدر من الاتحاد الأوروبي كاملًا.

هكذا يرسل بوتين رسالته بمنتهى الوضوح إلى الدول الغربية بقدرته على اختراق تحصيناتها وإجراء عمليات اغتيال في قلب عواصمها. كما يُذكر المحيطين به بالحقيقة التي لا يجب أن ينسوها عنه، أنه يسامح في أي شيء، أي شيء، إلا الخيانة.