وفي مواجهة هذه التهديدات، قد تكون المؤسسات متعددة الأطراف قوية بما يكفي لمنع الحرب بين الولايات، ولكن ضعيفة جدًا، أو منقسمة، فيما يتعلق بوقف القتال، كما هو الحال في العراق، وجنوب السودان، وسوريا، وأوكرانيا. وينضاف إلى موجة البؤس الإنساني هذه التغير المناخي، والضغوط الديموغرافية.

يعزِّز القطاع الإنساني، ويحسِّن، حياة أولئك الذين وقعوا في قبضة هذه الأزمات. والعاملون فيه أبطال، ومهرة، ومصدر إلهام. لكن يكافح القطاع لمواجهة الوقائع الجديد، إذ ثمّة فجوة متزايدة بين احتياجات السكان المتضررين من الأزمات، والمساعدة التي يحصلون عليها.

أحد المعايير على ذلك تدفقات المساعدة الإنسانية: إنَّ المبالغ المتعهَّد بها لمعالجة تبعات الأزمات تفشل بانتظام، الآن، في تلبية 40 في المئة من أهداف الأمم المتحدة. وإنَّه من المنطقي، إذن، أن نتناقش بشأن زيادات تمويل المساعدات الإنسانية. تقف الميزانية العالمية الإجمالية للمساعدات الإنسانية عند 22 مليار دولار فقط. وعند 0.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، جاءت الـ 135 مليار دولار، التي أنفقت على كل المساعدات، في العام الماضي – للحد من الفقر، إضافة إلى الأزمات الإنسانية -، من قِبَل الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أقل إلى حد كبير من هدف الأمم المتحدة المتمثِّل في 0.7 في المئة. ومع استمرار أوروبا والولايات المتحدة في العمل على الخروج من الأزمة الاقتصادية، فإنَّه من غير المرجَّح أن تنمو المساعدات العامَّة كثيرًا، في المدى القصير.

إنَّ المزيد من الموارد قد يساعد. لكن تحتاج الموارد أيضًا لأن تُستخدم بالشكل الذي يجعلها تُحدث أثرًا أكبر. يفضِّل البيئيون الحديث بشأن تحسينات “العامل 4″، حيث يستخدم خفض الموارد جزئيًا، في حين تضاعف الإنتاجية أيضًا، بما يؤدي إلى إجمالي أربعة أضعاف الكفاءة. يوفِّر هذا المفهوم مقياسًا مفيدًا للقطاع الإنساني أيضًا. فعلى مدى العِقد المقبل، لا يتعين على المانحين مضاعفة حجم المساعدات الموجَّهة إلى الأماكن التي تشتد فيها الحاجة فحسب، ولكن أيضًا إجراء إصلاحات تسعى إلى مضاعفة إنتاجية الإنفاق على المساعدات. يتطلب فعل ذلك تحولات كبيرة في الممارسات، والافتراضات. ونظرًا لتزايد حجم المشكلة، مع ذلك، يصبح أي شيء يقلل من المجازفات هامشيًا.

مساعدة في أماكن هشَّة

تطرح المساعدات مجموعة متنوعة من التصنيفات. يتم تصنيف الأموال المستخدمة لإنقاذ الأرواح، وتخفيف المعاناة، في مناطق الحرب، وبعد الكوارث الطبيعية، باعتبارها إغاثة إنسانية، في حين توصف الأموال التي تدعم النمو الاقتصادي، والتحسينات الحياتية طويلة المدى، في البلدان الفقيرة، بأنها مساعدات إنمائية. تميِّز الجهات المانحة أيضًا بين المساعدات المقدَّمة للبلدان ذات الدخل المنخفض، وتلك الخاصَّة بالبلدان متوسطة الدخل.

إنَّها تقسيمات غير مفيدة بشكل متزايد. على سبيل المثال، وكما أشار أنطونيو غوتيريس، المفوّض السامي للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، في فبراير، إنَّه لأمر “سخيف” أن يكون الأردن، ولبنان، على الرغم من تعاملهما مع ملايين اللاجئين من الحرب الأهلية، في سوريا، غير مؤهلين للحصول على دعم البنك الدولي، لكونهما من البلدان متوسطة الدخل. وبالمثل، حين تستمر الحروب لعقود من الزمن، كما هو الحال في أفغانستان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والصومال، فإنَّه من الغريب أن تفصل ما هو مفترض من الإغاثة الإنسانية قصيرة المدى عن مساعدات التنمية طويلة المدى، ومما لا معنى له أيضًا أن تُحدث خطًا فاصلًا صغيرًا بين أهداف، وعمليات، وأطر مفاهيم، ومؤسسات، هذين النوعين من المساعدات.

كما يخلق الجدول الزمني قصير المدى، الذي غالبًا ما يميز المشاريع الإنسانية، على سبيل المثال، العقبات فيما يتعلق بالتخطيط، والتنفيذ، والتقييم اللازم لتقديم المساعدة الدائمة للناس. وفوق ذلك، لا تزال تحوِّل الجهات المانحة الأموال، من خلال مؤسسات مختلفة، إلى العديد من الأماكن نفسها: لقد أنفقوا 5.5 مليار دولار كإغاثة إنسانية على أعلى 20 أزمة، في عام 2013، بجانب إنفاق 28.6 مليار دولار، في نفس البلدان، على المساعدة الإنمائية. بالإضافة إلى الفصل الزائف للخدمات – بين الصحة، والتعليم، وحماية المرأة، على سبيل المثال -، والنتيجة هي خيبة أمل إزاء الفشل في تلبية احتياجات الناس.

إنَّ منظورًا أفضل للتفكير في كيفية تركيز الإنفاق لهو أمر هش – ليس فقط من خلال معرفة كم تفتقر دولة ما للقدرة، والإرادة، أو الشرعية لتوفير الخدمات الأساسية، أو فرض سيادة القانون، ولكن أيضًا إلى أي مدى يتعرض هذا البلد للعنف، والفقر، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والصدمات البيئية. يغطي مفهوم الهشاشة كلًا من البلدان منخفضة الدخل، ومتوسطة الدخل، وهو يشق طريقه عبر الحدود الوطنية، ذلك أن البلدان المستقرَّة نسبيًا تحتوي على جيوب من عدم الاستقرار. تشير الإحصاءات إلى أن الأماكن الهشَّة تتساقط وراء نظيراتها المستقرَّة.

وحين يتعلق الأمر بالأهداف الإنمائية للألفية التابعة للأمم المتحدة، فإنَّ أربع أخماس الدول المصنَّفة باعتبارها هشَّة، من جانب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ليست في طريقها لتحقيق تعليم ابتدائي شامل بحلول نهاية هذا العام، كما سيفشل الثلثان في خفض الفقر جزئيًا. إنَّ نسبة الفقراء الذين يعيشون في الدول الهشَّة آخذة في الارتفاع.

وتشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أنَّه حتى في أفضل السيناريوهات، فإنَّ أكثر من 62 في المئة من سكان العالم الذين يعيشون في الفقر المدقع (من يتم تعريفهم بأولئك الذين يعيشون على أقل من 1.25 دولار في اليوم)، في الدول الهشَّة، سيشهدون ارتفاعًا بنسبة 43 في المئة، بحلول عام 2030. ومع إنفاق 38 في المئة فقط من المساعدات على الدول الهشَّة اليوم، يخلق التكتل المتزايد للفقر، إلى جانب عدم التطابق الحالي بين الحاجة وما هو متوفِّر، قضية مضاعفة الإنفاق على المساعدات في هذه الأماكن.

تخلق الجغرافيا المتغيرة للفقر، في العقود الأخيرة، إمكانية لإعادة التوازن في التمويل، من الدول المستقرة إلى الأماكن الهشَّة. وتظل الغالبية العظمى من الفقر العالمي في البلدان المستقرَّة متوسطة الدخل، مع ثلث النسبة في الهند وحدها. لكن في الهند، والصين، وبقية شرق آسيا، والأجزاء الأكثر استقرارًا في إفريقيا، ليست المساعدات هي الأداة الرئيسة لمعالجة الفقر؛ النمو الاقتصادي، والإيرادات المحلية، والاستثمار الأجنبي، والتحويلات، هي أدوات ذلك.

فبدلًا من ميزانيات مساعدات أكبر، يتطلب القضاء على الفقر هناك تقاسم عائدات النمو على نحو أكثر مساواة. وفي البلدان المستقرة ذات الدخل المنخفض، ستظل المساعدات تلعب دورًا مهمًا، ولكن ينبغي أن يتجاوز التركيزُ المساعدات إلى تغييرات في السياسات. ومن شأن توسيع الاستثمار الأجنبي المباشر، وإزالة إعانات وتعريفات التجارة الزراعية الدولية، وتسهيل الهجرة والتحويلات المالية، أن يفعل أكثر بكثير للقضاء على الفقر من المساعدة الإنمائية.

يعدّ التحدي المتمثل في تمويل عمل يتصدى للتغير المناخي بمثابة ضغط المنافسة الجديد على ميزانيات المساعدة. لقد توقَّع اتفاق كوبنهاجن 2009 أنه بحلول عام 2020، من شأن البلدان المتقدِّمة أن تعطي البلدان النامية 100 مليار دولار سنويًا لتخفيف آثار التغير المناخي والتكيف معه. وتعدّ ميزانية المساعدات هذه موارد واضحة على المدى القصير. لكنَّها ليست حلًا مستدامًا على المدى الطويل. وهذا يتطلب، على سبيل المثال، نظام تجارة انبعاثات عالمي يُبنى على العدد المتزايد من أسواق الكربون الإقليمية. لأنَّه من خلال السماح للملوِثين بالدفع لخفض الانبعاثات أينما كانت أرخص، فإنَّ هكذا نظام سيقلل من تكاليف التخفيف. ما هو أكثر من ذلك، يمكن إيجاد مصدر متخصص من التمويل، لا يعتمد على تقدير صُنّاع القرار في وزارات المساعدات.

تشديد على الأدلة

من أجل تحسين أثر المساعدة عن طريق أشياء من قبيل “العامل 4″، فإنَّ مضاعفة التمويل في الأماكن الهشَّة سيكون بحاجة إلى الارتباط بمضاعفة الإنتاجية. فعلى كل دولار من المساعدات أن يقدِّم مزيدًا من التأثير، ليصل إلى عدد أكبر من الناس، ويحقق تغييرًا أكثر عمقًا، وأوسع مدى، في حياتهم. يمكن للجهات المانحة دفع هكذا تحول من خلال وضع حوافز لتوليد، وتطبيق، الأدلة على ما يحدث.

شاركت جهات مانحة وهيئات مساعدة، مع اقتصاديين وعلماء سياسة، في العقد الماضي، أو نحو ذلك، في تحليل برامج التنمية المختلفة، وفقًا لمستوى جديد من الصرامة. لقد تبنوا تقييمات عشوائية (أقرب إلى المحاكمات العشوائية المتحكم بها التي تستخدم في الرعاية الصحية)، حيث يتم عشوائيًا تعيين مجتمعات، ومدارس، وهلم جرا، لمجموعة ضبط، أو مجموعة علاج، لتقدير الأثر الصافي لتدخل معين. وفي الضوء البارد للأدلة العلمية، ثبت أن لدى بعض الأفكار الشعبية في التنمية تأثير محدود. خذ التمويل الأصغر، الذي ينُظَر إليه كحل لتغيير قواعد اللعبة في فقر مدقع. تُظِهر مجموعة من الأدلة، الآن، أنَّه على الرغم من أن تقديم قروض صغيرة يزيد من استهلاك الناس للسلع، والخدمات الأساسية، في المدى القصير، فإنَّه لا يحقق غرضه التحويلي في رفع دخولهم بشكل ملحوظ.

تحصي قاعدة بيانات، جمعتها المبادرة الدولية لتقييم الأثر، أكثر من 2500 دراسة للطرق المختلفة لمعالجة الفقر في البلدان منخفضة، أو متوسطة، الدخل، المستقرة نسبيًا. وبفضل هكذا أدلة، استطاعت الجهات المانحة تركيز استثماراتها على الخدمات التي تثق أنها يمكن أن تُحدث اختلافًا – على سبيل المثال، التطعيمات، وعلاج فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والجهود المبذولة لخفض الحواجز المالية والجغرافية أمام الحضور المدرسي.

قد تؤدي منطقة واعدة من البحوث المستجدة إلى تغيير سلوكي. نادرًا ما اتُخِذ قرار إرسال الواحد لأبناء إلى المدرسة، أو توفير المال لبدء عمل تجاري، أو الكف عن العنف، من خلال تقييم عقلاني للتكاليف والفوائد. قد يعطي الناس الخسائر وزنًا أكبر من المكاسب، وقيمة لمكافآت اليوم أكثر بكثير من مكافآت الغد، وقد يبنون قراراتهم على تصوراتهم عما يقوم غيرهم بفعله.

من بين الرؤى التي يأتي بها الاقتصاد السلوكي أن المرء لا يحتاج إلى تغيير المواقف من أجل تغيير السلوك. وجدت دراسة أجرتها العالمة النفسانية، إليزابيث ليفي بلوك، في رواندا، أن حمل الناس على الاستماع إلى أوبرا عن المصالحة من خلال الراديو قد جعلهم أكثر عرضة للتعاون والمعارضة علنًا، في محادثة جماعية، وأقل عرضة لعدم السماح لأطفالهم بالزواج – حتى مع بقاء معتقداتهم الشخصية دون تغيير. يعني هذا أنه بدلًا من محاولة قلب المواقف الراسخة، ينبغي أن تركز البرامج على السلوك تحديدًا.

وبصريح العبارة، لقد غيب ذلك في الأماكن الهشَّة، وكان ذلك في كثير من الحالات بسبب نظرة المانحيين والأكاديميين أن إجراء البحوث هناك أقل قابلية للتنبؤ، وأكثر تكلفة، مما هو عليه في سياقات أكثر استقرارًا. وقد أجري أقل من مئة تقييم للأثر في أماكن متضررة من الأزمات. وفي هذه المناطق، طغت الضرورة الإنسانية للفعل، في كثير من الأحيان، على الحاجة إلى التقييم، والتعلم، والتحسين.

قد تبدو الدروس المتعددة، من مزيد من السياقات المستقرة، قابلة للنقل والتحويل. ستساعد التطعيمات، والمياه النظيفة، والصحّة الجيدة، على التصدي لانتشار الأمراض المعدية، مهما كان السياق. كما سيتعلم الأطفال دائمًا بشكل أفضل حين يتمتعوا بالطعام المغذي، والرعاية التي تستطيع توفير الدفء والتحفيز. لكن في سياقات هشَّة، تعيق المشاكل تنفيذ التدخلات. على الرغم من أنَّ القطاع الإنساني قد يعرف أن تدخلًا معينًا يُحدث أثرًا، فإنَّه يعرف أقل من ذلك بكثير حول كيفية تعزيز المؤسسات، والنظم، والموظفين، بالشكل الذي يمكن تنفيذه فعليًا في بيئات الصعبة.

في باكستان، على سبيل المثال، تُدمِّر الفيضانات السنوية مجتمعات بأكملها، ومن ثم تحتاج لأموال من أجل تجديد السلع الأساسية، بشكل سريع. وعلى الرغم من إمكانية التنبؤ بالأزمة، فإنَّ الأمر لا يزال يأخذ من ستة إلى ثمانية أسابيع من أجل الحصول على المال من المانحين، عبر وكالات الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، والشركاء المحليين، إلى أن يصل إلى مستلم فعلي. وفي السنة الأولى بعد الفيضان، يمكن أن يكلَّف كل دولار ما يصل إلى 46 سنتًا لنقله.

ثمَّة مشكلة مماثلة تؤثِّر على تسليم التطعيمات. على مدى العقدين الماضيين، رفعت التحسينات في مجال تكنولوجيا التطعيم، وسلاسل التوريد المبردة، والتمويل العالمي، بشكل كبير من معدلات التحصين. لكن حتى الآن استقرت المعدلات، في البلدان النامية، عند 80 في المئة، مما تسبب في موت أكثر من 1.5 مليون طفل سنويًا من أمراض يمكن الوقاية منها. إنَّ جزءًا من المشكلة سلوكي: يُظهر العاملون في مجال الصحة، في العيادات، أو الأسر، فشلًا في القيام برحلة طويلة هناك، إما بسبب التكلفة، أو المسافة. وفي الأماكن الهشَّة، مع ذلك، هناك تهديدات أمنية أيضًا . ونظرًا لعبء المرض في هذه المناطق، هناك حاجة إلى مزيد من الاستثمار في إيجاد سبل لتحسين التغطية، والاستفادة من الخدمات الطبية الأساسية.

تخلق الحلول المُدلل عليها فرصة كبيرة للجهات المانحة، والوكالات، لجعل المساعدات أكثر إنتاجية. لكن، في كثير من الحالات، لا تزال ممارساتهم خارج خطوة البيانات. خذ التحويلات النقدية. تُظِهر مجموعة كبيرة من الأدلة الآن أن المال لا يساعد الناس على شراء المواد الأساسية فقط، وإنما يساعد الأسر على زيادة دخلها أيضًا، حتى تتمكن من إرسال أبنائها إلى المدرسة بدلًا من العمل. حتى الآن، بين عامي 2009 و 2013، ذهب ما بين 1.5 إلى 3.5 في المئة فقط من المساعدات الإنسانية في صورة نقدية.

على الجهات المانحة أن تعتمد على مبدأ بسيط: توجيه الدعم فقط لتلك البرامج التي تستند إلى أفضل الأدلة المتاحة، أو، في الحالات التي لا يزال يتعين عليها إجراء تقييمات للأثر (أو ما يعادلها)، تلك التي تدعم جيل الأدلة. وبنفس الطريقة التي تتوقع بها الجهات المانحة أن تتقيد البرامج بالقواعد المالية والقانونية، يجب عليها أن تضمن أن برامجها الخاصة، وتلك التي تمولها، مسوغة بجودة عالية، وبيانات ذات صلة. إنَّ الجائزة هائلة: سد فجوة الأدلة، في المناطق ذات الأولوية العليا في القطاع الإنساني. سيتطلب ذلك استثمارًا.

يمكن أن تكلِّف تقييمات الأثر العشوائية، والدراسات الدقيقة المماثلة، مئات الآلاف من الدولارات، وقد تستغرق ما يصل إلى واحد مليار دولار، على مدى عشر سنوات، لإجراء نفس عدد تقييمات الأثر في الأماكن المأزومة، كما جرى في الأماكن المستقرة منخفضة الدخل. لكن من دون الاستثمار، لن تكون الجهات المانحة قادرة على تقديم الابتكارات اللازمة بما يتناسب مع ارتفاع الطلب، أو توجيه إنفاقها نحو التأثير الأعلى.

لدى التركيز على الأدلة نقَّاده. ليست الحجة الأقوى هي أن حالات الطوارئ تحول دون جمع الأدلة، وإنما أن التقييمات ذات فائدة محدودة، لأن النتائج من وضع واحد لا تنطبق بالضرورة على آخر. بيد أنها ليست حجة لتجاهل الأدلة، ولكن لتوليد الكثير منها، عبر مجموعة من السياقات، ومن ثم التأكد من أن كل برنامج تم تصميمه بما يناسب الوضع المحلي. لقد سلط تفشي الإيبولا في غرب إفريقيا، والعنف الذي تمارسه الدولة الإسلامية المزعومة، في الشرق الأوسط، الضوء على الطبيعة المعقدة بشكل متزايد، وغير المتوقعة، للأزمات الإنسانية. ومن أجل أن تكون البرامج فعالة في مثل هذه البيئات، فإنَّها لا بُدَّ من أن تكون مخصصة للسياق المحلي. كما أنها تحتاج أيضًا إلى الاعتماد على أدلة جيدة.

المزيد من أجل المال

ليست الأدلة الأفضل هي الأساس لجعل البرامج أكثر فعالية فقط؛ يمكن أن تساعد أيضًا في جعلها أكثر كفاءة. نقطة الانطلاق في ذلك هي الشفافية. تُخبِر المواقع الإلكترونية للعديد من المنظمات غير الحكومية، ومؤسسات الأمم المتحدة، بما في ذلك تلك الخاصَّة بنا، لجنة الإنقاذ الدولية، الجمهور ما يمكن أن “يحصلوا عليه” للتبرع بعشرين، أو خمسين، أو مئة دولار. مع ذلك، ليس من السهل دائمًا فهم تلك الإحصاءات، لأن هناك مؤشرات قليلة واضحة، ومتنشرة، للتكلفة الفعلية لتوفير المياه، والصرف الصحي، والغذاء، وهلم جرا.

في التحليل الأخير الخاص بلجنة الإنقاذ الدولية، وجدنا اختلافات كبيرة في التكاليف، ليس فقط بين البرامج – من البديهي أن تطعيم الأطفال قد يكلِّف عشر دولارات، في حين قد يكلف تقديم مشورة كثيفة الوقت لإحدى الناجيات من الاغتصاب عدة مئات من الدولارات -، ولكن أيضًا داخلها. إذا لم تبدأ الجهات المانحة في طلب تقرير عن تكلفة تقديم الخدمات، من منظمات الإغاثة، ستفقد هذه المجموعات الحافز الهامّ لتحسين الكفاءة، ومشاركة أفضل الممارسات.

إنَّ الخبر السار هو أنه يمكن تخفيض التكاليف دون التضحية بالجودة. تسافر المساعدات في رحلة معقدة إلى المتلقين. يمول دافعو الضرائب وزارات المساعدات، التي تعطي منحًا أو عقودًا، وأحيانًا عبر وسطاء يسمون “مديري الصناديق”، للمنظمات غير الحكومية، التي غالبًا ما تتعاقد فيما بعد مع الجماعات المحلية. أو تقدِّم وزارات المساعدات المال إلى وكالات الأمم المتحدة، التي تنفقه من خلال مزيجٍ من تنفيذ المشاريع بأنفسها، وتقديم منح للمنظمات غير الحكومية. ونظم المساءلة المصاحبة متعددة، ومتداخلة، ومتباينة، وكل نظام بتكاليفه الخاصة. يمكن أن يؤدي الاستغناء عن بعض طبقات البيروقراطية إلى الحد جذريًا من تكاليف المعاملات. وسيجبر قدرًا أكبر من الشفافية حول التكاليف كل حلقة في سلسلة تقديم المساعدة على تبرير دورها.

تواجه المنظمات غير الحكومية ضغوطًا من الجهات المانحة العامَّة، والخاصَّة، لإبقاء تكاليف نفقاتها العامَّة في الحد الأدنى، مع تقديم أكبر قدر ممكن من الموارد الممكنة للبرامج. وقد قامت هذه المنظمات بالتزامات هامّة بشأن التوظيف المحلي، بدلًا من الموظفين المغتربين، مما يقلل من التكاليف. لكن تفتيت القطاع بشكل عام فيما بين كل من الوكالات المنفذة، والجهات المانحة، يُعلي من التكاليف. ويمكن أن تحقق درجة أكبر من التوحيد مدخرات كبيرة. كما ينطبق الشيء نفسه على إنشاء مراكز خدمات مشتركة في مجالات من قبيل التمويل، والأمن، والموارد البشرية، والنقل، فضلًا عن مهام مثل تطوير المناهج، وبروتوكولات العلاج.

ليس الأرخص دائمًا أفضل، بطبيعة الحال، وهذا هو السبب في أنه يجب على الجهات المانحة أن تجمع البيانات حول التكاليف، مع تقييمات الفعالية. بهذه الطريقة، لن تفعل نفس الأشياء بشكل أكثر كفاءة فقط، بل ستكون قادرة على اختيار أي عملية تستخرج أكبر أثر من كل دولار. إنَّ الأرباح المحتملة هائلة.

في كينيا، على سبيل المثال، هناك أدلة قوية على أن عددًا من البرامج يمكن أن يحسن القراءة والكتابة للأطفال، ولكنها تختلف على نطاق واسع في فعاليتها من حيث التكلفة. وفقًا لاستعراض الخبير الاقتصادي باتريك ماك إيوان، يمكن أن ترفع8900 دولار مستوى مهارات القراءة لمئة طالب بنسبة عشرين في المئة، إذا ما تم إنفاق المال على تعليم القراءة، والكتابة، بمساعدة الحاسوب، ولكن يمكن لهذا المال أن يؤدي إلى نفس النتيجة مع 423 طالب، إذا أنفق على حوافز الأداء للمعلمين، ولـ 965 طالب، إذا أنفق على دروس إصلاحية. على الرغم من قيمة هذه المعلومات، تبقى الدراسات المتعلقة بفعالية التكلفة – حتى بين أولئك الباحثين الذين يقومون بإجراء تقييمات التأثير العشوائية – نادرة للغاية.

يمكن لهذه الدراسات أن تساعد في تحديد أكثر الطرق إنتاجية لتحسين التعليم، أو الصحة، لكنها لن تساعد الجهات المناحة في تقرير كيفية تخصيص التمويل بين الأولويات المتنافسة. إنَّه ليس من السهل مقارنة نتائج مختلفة إلى حد كبير. ما هي قيمة علاج ضحايا العنف القائم على أسباب جندرية، وكيف يمكن مقارنته مع قيمة تعليم القراءة لطفل، وزيادة دخل أسرة، أو مساعدة شخص في البقاء على قيد الحياة في مجاعة؟ إلى أي حد ينبغي أن يخفض اتخاذ تدابير وقائية، مثل التكيف مع التغير المناخي، بالنظر إلى الفوائد التي ستعود خلال سنوات عديدة فقط من الآن؟

هذه هي بالضبط الأسئلة التي تواجه واضعي السياسات، والجهات المانحة، عند تخصيص مليارات الدولارات، من خلال المنظمات غير الحكومية، عند العمل على تقرير ما إذا كانوا سيتعرضون لمشاريع المختلفة. على الرغم من أن وضع قيمة نقدية على الحياة قد يبدو أمرًا منفِّرًا، يؤدي إجراء تحليلات التكاليف، والفوائد، إلى نقاش أكثر عقلانية حول مكان تخصيص المساعدات.

الحوافز المناسبة

على مدى العقود الثلاثة الماضية، أدرك صُنّاع السياسة في أوروبا، والولايات المتحدة، قوة الحوافز، عندما يتعلق الأمر بتحسين البرامج الحكومية. أتى إصلاح الخدمة العامة، في المملكة المتحدة، على مدى السنوات الخمس وعشرين الماضية، في ثلاثة أجزاء: حوافز من أعلى إلى أسفل، بما في ذلك حد أدنى من المعايير الوطنية لضمان عدم إهمال الخدمات الموجودة في الأحياء، أو المدارس، المحرومة؛ والضغط من أسفل إلى أعلى، من خلال آليات تسمح للمتلقي بخيار وصوت أعلى؛ والضغط الأفقي، حيث دمرت الاحتكارات، وأزيلت الحواجز من أمام شركات القطاع الخاص، والجمعيات الخيرية.

قد تستفيد الإغاثة الإنسانية من تركيز مماثل على الحوافز.

أولًا

، تحتاج الأهداف التي تنظم سلوك الجهات المانحة لأن تكون أكثر وضوحًا، وهو ما يعني تطلعات عالمية محددة للمواطنين في الدول الهشَّة. عندما أنشئت الأهداف الإنمائية للألفية، في عام 2000، وضعت الأهداف الفردية لكل هدف على مستوى عالمي. ثم أصبحت هذه الأهداف في الواقع معيارًا لكل بلد، مهما كانت نقطة انطلاقها.

نتيجة لذلك، كان الحافز هو التركيز على تلك البلدان التي كانت أقرب إلى عتبة الفقر، وتلك التي لديها أكبر تجمعات منه. لكن على الرغم من أنه قد زادت مستويات المعيشة بشكل عام منذ أدخلت الأهداف، عززت الأهداف الإنمائية للألفية الفجوة بين أولئك الذين يعيشون في دول مستقرة، وأولئك الذين يعيشون في أماكن هشَّة.

يخاطر السبعة عشر هدفًا للتنمية المستدامة، وهي الأهداف التي ستحل محل الأهداف الإنمائية للألفية في نهاية هذا العام، بإدامة هذه الدينامية. على الرغم من العدد الكبير من الأهداف الفردية، 169 هدفًا، فإنَّ الاحتياجات الخاصَّة بالمدنيين الذين يعيشون في مناطق الصراع تظل مهمّلة. وهو أمر صحيح حتى بالنسبة إلى الهدف المقترح المكرّس للسلام، والهدف المقترح المكرّس لتحقيق المساواة للنساء والفتيات.

سيكون من الأفضل إذا ترجمت الأهداف الرئيسة للتنمية المستدامة إلى أهداف وطنية مصممة خصيصًا لنقطة البداية والإمكان في كل بلد. وللتأكد من أن الدول الهشَّة ستحصل على ما تستحقه من الاهتمام – عل سبيل المثال، في مجال التعليم، والصحة، وتمكين النساء والفتيات – يجب أن يقترن ذلك بأهداف الدول الأكثر هشاشة، والالتزام برفع المستويات إلى معايير الحد الأدنى.


ثانيًا

، يمكن للقطاع الإنساني توجيه التمويل نحو النتائج بدلًا من النواتج. من الناحية المثالية، تأخذ الجهات المانحة الحكومية رؤية مستقلة، وشاملة، وطويلة الأجل لاحتياجات البلدان، وتمنح أموال دافعي الضرائب لوكالات أفضل قادرة على تلبية تلك الاحتياجات. لكن الواقع أكثر تعقيدًا، مع الأولويات المتغيرة، والضغوط على الميزانية، وعدم وجود تنسيق بين الحكومات وداخلها. وفي الوقت نفسه، يتم تحفيز المنظمات غير الحكومية لتنفق أقل على الإدارة، بما في ذلك على تقييم جودة البرامج.

ينبغي على الجهات المانحة الابتعاد عن الإمساك بمسئولية المنظمات غير الحكومية، والمتعاقدين من القطاع الخاص، عن إنفاق المال على مخرجات محددة، وبدلًا من ذلك السماح لها بأن تثبت تحسينات قابلة للتقييم في حياة العملاء. بدلًا من دفع المنظمات لبناء عدد معين من المدارس، وتدريب عدد معين من المعلمين، على سبيل المثال، ينبغي للجهات المانحة منح جائزة للبرامج التي يمكن أن تحقق أكبر تحسينات في مجال محو الأمية الوظيفية، والكتابة والحساب، لمعظم الناس. إنَّ ربط التمويل بالنتائج قد يشجيع المنظمات على التركيز أكثر على التنفيذ عالي الجودة، والتحسين المستمر، كما في المقترحات المصاغة جيدًا. حتى في حالات الطواريء، يمكن للتركيز على النتائج أن يساعد. إنَّ فعل ذلك، في الواقع، في غاية الأهمية، في المواقف التي تهدد الحياة، حيث تأتي حتمية إنقاذ الأرواح أولًا.

في الوقت نفسه، ينبغي أن تكون الجهات المانحة أقل تقييدا حول كيفية تحقيق نتائج. يجب جميع المقترحات الاعتماد على الأدلة ذات الصلة أو توليد تعليمية صارمة. لكن المنظمات ينبغي تشجيعها على تقييم أي تدخل من شأنه أن تعمل بشكل أفضل في سياق معين والتكيف وفقا لذلك. بدلا من المساعدات المتجهة إلى نفس البلد الذي انقسم إلى قنوات الإنسانية والإنمائية، يجب أن يكون هناك أكبر بكثير التنسيق بين مقدمي المساعدات، وبناء على التجارب بتمويل المجمعة. وبطبيعة الحال، إذا الانحياز مختلف الجهات المانحة جهودهم، فإن المكاسب المحتملة ستكون جميع أكبر.

ينطوي

الإصلاح الثالث

على الضغط من أسفل إلى أعلى: تحتاج البرامج للرد أقل على ما تريده الجهات المانحة، وأكثر على ما يحتاجه المتلقين. وإنَّ أقوى وسيلة لتحقيق ذلك هي، مرة أخرى، من خلال التمويل. يسمح إعطاء الأموال مباشرة إلى الفقراء باختيار المسار الذي يرغبون إنفاقها فيه. في هذا السيناريو، ستكون المنظمات التي تقدم السلع، والخدمات، مدفوعة لجذب وخدمة العملاء. وأينما يكون لدى السكان منظمات أقل للاختيار من بينها، ينبغي على المنظمات الموجودة جمع البيانات بشأن مستويات الرضا من أولئك الذين يحاولون ويساعدون في جعل البيانات متاحة للجمهور. من شأن ذلك أن يقدِّم ضغطًا نحو التكيف مع وجهات نظر العملاء.

هناك توازن دقيق بين التعاون والمنافسة في القطاع الإنساني.تعمل المنظمات معًا بشكل وثيق على أرض الواقع، في كثير من الأحيان بالتنسيق مع الأمم المتحدة. بعد الحصول على حوافز للعمل، يحاتج مقدمو المساعدات إلى معرفة أنه يمكن استبدالهم.

في الواقع، إنَّ حقيقة أن قطاع المساعدات قد تمت تجزئته يعني أنه هو أيضًا قادر على المنافسة. لكن كما تواجه الوكالات المانحة الرئيسة ضغوطًا لخفض التكاليف الإدارية، فإنهم يخلقون منحًا أقل وأكبر، ويقومون بإعطائها للاتحادات التي تغطي مناطق جغرافية أوسع. يسير ذلك المال بتكلفة أقل، ولكنه يحد من المنافسة، لأنه يتم تشجيع اللاعبين الرئيسين في مجال معين للانضمام إلى القوات.

تحتاج الجهات المانحة إلى تشجيع المنظمات على التعاون في مجالات الكفاءة (مثل المشتريات، ووظائف دعم المكتب الأخرى) بعد التنافس على الجودة. سينطوي هذا على إعطاء المنظمات الفردية، ولا سيما المنظمات غير الحكومية المحلية، ما يكفي من الموارد للتنافس. وستشمل تسوية ميدان اللعب – لا تفترض أن القطاع الخاص أكثر كفاءة، أو أن الجماعات المحلية أكثر استدامة، ولكن تبذل اختيارات بناء على فعالية التكلفة.

كما ستنطوي على إخضاع المنظمات لمنافسة، ليس فقط من المنظمات الأخرى التي تقدِّم نفس المنتجات والخدمات، ولكن أيضًا من تلك التي تقدم بدائل، مثل التحويلات النقديّة. وقد حفز بعض أعظم القفزات الاقتصادية ليس عن طريق المنافسة بين الشركات، ولكن من خلال المنافسة بين التكنولوجيات. وينبغي تطبيق نفس المنطق على تقديم المساعدات في الأماكن الهشَّة.

إنسانوية صلبة

لأكثر من قرن، كان القطاع الإنساني رمزًا للرحمة، والإبداع، والبطولة. وهو يظل كذلك بالعديد من الطرق. القوافل المكونة من مسئولي الأمم المتحدة التي يرعون مدنيي حمص، في سوريا، تحت نيران القناصة، وعمال الإغاثة الذي يرتدون البدل الواقية لمحاربة فيروس الإيبولا، والجماعات النسائية المنظمة ضد العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية – لا تزال مصادر إلهام في خضم اللامبالاة. إنَّ المباديء التي يعيش عليها القطاع الإنساني – وليس أقلها الاستقلالية والحياد – قوية للغاية.

لكن القطاع أيضًا، وعلى نحو متزايد، مكان للأهداف للضائعة: المناشدات التي لم يتم الوفاء بها، والتعهدات التي لم يتم تسليمها، والمُثُل العليا التي لم يتم ترجمتها إلى عمل. وهو ما يلزم ألا يكون هذا هو الحال. يتطلب القطاع مزيدًا من التمويل، ولكن عليه أيضًا احتضان وسائل جديدة لممارسة عمله: مزيد من الانضام معًا، ، مزيد مما هو مدلل عليه، وتركيز أكثر على النتائج، وصلابة أكثر.

ليست هذه الأجندة بديلًا عن العمل السياسي لمنع ووقف الحروب. بعد كل شيء، يوقف القطاع الإنساني الموت، لكنه يدعو الدول والسياسة لوقف القتل. وفي خضم أزمات عالمية متعددة، وضغط في جميع أنحاء العالم على الحكومات للتركيز على الجبهة الداخلية، تكون الآفاق نحو تجديد الإرادة السياسية ضئيلة. وهو ما يدفع القطاع الإنساني نحو الخطوط الأمامية. وسيكون أفضل درع هو أفضل ممارسات.


المصدر

| نشر في يوليو 2015

*ترجمة فريق موقع راقب