توقّفنا في

الحلقة الأولى

عند أثر الطابع المهني للبنّا والهضيبي الأب والتلمساني في تشكيل بنية وسلوك الجماعة. لكن كل جماعة/حركة من الجماعات الإخوانيّة الثلاث لم تصطبغ بصبغة مرشدها فحسب؛ بل عكست طبيعة الحقبة السياسيّة، وطبيعة العلاقة مع النظام الحاكم. ومن هذا المنظور يُمكننا مثلًا فهم بعض أسباب لياذ الهضيبي وجماعته بالدعوة، ونبذهم للعمل السياسي المباشر. فقد وصمت سياسات الحقبة الناصرية بإثنينية صلبة: إما الخضوع الكامل أو الاستئصال التام. وظهرت رغبة عبد الناصر في إبادة الحركة، التي ارتأى فيها مُنافسًا سياسيًا؛ قويّة واضحة، إن لم يتحقق تدجينها. فقد رفضت الجماعة دمجها في هيئة التحرير، كما في سائر البنى السياسيّة التي اختلقها. كذا لم يُؤد اختراق عبد الناصر التنظيمي إلى تفكيك الجماعة تمامًا لحسابه، وبقيت بعض جيوبها عصية على التدجين، برغم اختراقه للنظام الخاص؛ “قلب” الجماعة الأكثر صلابة. ومن ثم قتل من القيادات من لا أمل في تدجينه ودمجه، وأبقيت هراوة الاضطهاد الغليظة تسوم القاعدة سوء العذاب، رغبة في ضمّ أكبر عدد مُستطاع للقطيع. وفي ظروف الاضطهاد الوحشية تلك؛ ولدت كل “الحركات” الإسلامية، التي ظهرت بعد ذلك؛ من رحم العذاب. بدءًا ب”جماعة المسلمين”، المسمّاة إعلاميًا ب”جماعة التكفير والهجرة”؛ وانتهاءً بفرع جماعة التبليغ والدعوة المصري.

وقد كان تشظي الحركة الإخوانيّة طبيعيًا في المرّتين. ومرجع ذلك لسبب رئيس ومركزي فصّلنا فيه قبلًا، وهو أن الجماعة، التي مثَّلت وجسّدت التيار الرئيس والأهم في الحركة الإسلاميّة طوال عقود؛ لم يكن ينتظمها إطار نظريّ وحركيّ واضح، اللهم إلا الإطار القيمي العام للإسلام. فقد كانت تضُم أطيافًا مُتنوعةً لدرجة التناقُض، فضلًا عن أن الأستاذ البنا قد مارس العمل الحركي بنزوعٍ تجريبي واضح، ولم ينشغل بالتنظير، أو حتى بالتأصيل لحركته؛ الأمر الذي حال دونه سرعة تسييس الجماعة الأولى. وقد أدى ذلك التسييس العجول، فضلًا عن تمركُز الجماعة الأولى حول شخص البنا؛ أدى إلى تفكُكها تمامًا بعد اغتيال النقراشي. مما جعل مهمة الهضيبي في لم شعث المتناقضين أمرًا في غاية الصعوبة، بغير وجود البنا أو إطار نظري واضح يقوم مقامه؛ خصوصًا في ظل حالة الانقسام والاستقطاب الداخلي التي أحدثها اختراق عبد الناصر للجماعة. كذا؛ فإن تأخر تبلور الإطار النظري، الذي سعى الهضيبي لوضعه في المركز؛ قد ساهم في تحطيم الجماعة الثانية لنفس السبب الذي حطّم جماعة البنّا. فقد استغرق ذلك الأساس النظري حوالي العقد ليتبلور على يد سيّد قطب. وحتى حين تبلور؛ لم يكُن بمقدور الجماعة تعميمه تربويًا في أجواء المطاردة والاضطهاد والاعتقال والتعذيب، ومن ثم ظهر ما يُسمّى تاريخيًا ب”تنظيم 1965″؛ وهي المجموعة التي سعى قطب، بإذن الهضيبي ومباركته؛ لجمعها على تصوّرٍ نظري واضح ومسار حركي مُحدد، تصوّر يتم تهميش التنظيم فيه تمامًا، بل ويُرجى تحطيمه؛ إذا تعارض مع مصلحة الدعوة المجرّدة. وكما كانت جماعة البنّا محاولة أوليّة لاكتشاف وبلورة تصوّر عن المسارات الاجتماعية والسياسية المفترضة للدعوة من خلال الحركة-التنظيم، باعتباره تأويلًا جديدًا للوحي؛ كانت جماعة الهضيبي هي الخطوة التالية، والاطراد الطبيعي؛ على نفس الدرب: بناء الحركة-المجتمع بالدعوة، مع وضع الدعوة في المركز خلال صيرورة الإنشاء والتنشئة التبادُلية: إنشاء الدعوة بالحركة وتنشئة الحركة بالدعوة. لقد كانت الدعوة قيمة “مثاليّة” مُجرّدة في جماعة البنا، وكان التنظيم هو الأداة الملموسة التي تستفرغ الجهد. أما في جماعة الهضيبي؛ فقد نضجت الرؤية الدعوية واستوت في صيرورة تأويل تاريخية واضحة الوجهة والمعالم، وصار على التنظيم أن يخضع كُليًا للدعوة، وإلا وجب تحطيمه حفاظًا على سلامة الدعوة، وتحرُّرها؛ من أن يُعيد الواقع المادي/التنظيمي صياغتها وصبّها في قوالبه الحزبيّة.

وإذا كان من الطبيعي أن تسبق الحركة التنظير، ما دام ذلك في الإطار العام للإسلام وفي ظلال قيمه؛ فإن التسييس المبكر للحركة على يد البنا، بغير إطار نظري واضح يُحدد مجالات حركتها في الفضاء الاجتماعي؛ قد أدى لاختراقات سامة شلّت جسد الحركة-التنظيم في لحظات فاصلة، وساهمت في تفكيكها مرتين، ثم في توثين بنيتها التنظيمية بعد ذلك، ابتداءً من عقد السبعينيات؛ بعد أن خرج هدف التنظيم من حيّز الأداة الدعويّة وحاشية الحركة الاجتماعيّة إلى بؤرة الوجود السياسي الحزبي ومركزه الساكن، ليصير استمرار الوجود التنظيمي هدفًا أسمى يُطلَبُ لذاته، ولو على حساب الدعوة. وبعبارة أخرى؛ فقد كان دمج الجماعة في اللعبة السياسية يعني ضمنًا تخلّيها عن واجب الدعوة إلى الله (مسئولية استعادة النطاق المركزي)، وانصرافها إلى الدعاية لحزبها السياسي وبرامجها التنفيذيّة (لتحسين أداء التروس الفرعيّة التي يتحكم في عملها القائم بترشيد الواقع وجيوش البيروقراطيين). ففي اللعبة “الديمقراطية” تتم تسوية جميع التصوّرات والمنطلقات والمرجعيّات، عمليًا؛ وتصير الأولوية الحقيقيّة للإجراءات العمليّة والتفاصيل التقنيّة في إدارة الحياة اليومية. وفي هذا السياق تُمسي الدعوة إلى الله مُزايدة مُستهجنة، و”توظيفًا” مذمومًا للدين؛ من وجهة نظر المنافسين السياسيين. لينتهي المآل لاعتبار الوظيفة الدعويّة الاجتماعيّة “استعلاءً” غير مُبرر حزبيًا ولا سياسيًا في روع كثير من المنتمين للجماعة/الحزب “الإسلامية”. أي أن السلوك السياسي العلماني لا يُعيد فحسب تشكيل الأهداف والتصوّرات الحركيّة، بل يُعيد بناء الصورة الذهنية للذات والمجتمع، ومن ثم تهميش فريضة الدعوة فرديًا واجتماعيًا، ولو بشكل غير واع.

ورُبّما أفادتنا الإشارة السريعة للفارق بين الوظيفة العامة في النظم الحديثة وفي التصوّر الإسلامي، وأثر هذا الاختلاف على صيرورة الدعوي وصورة السياسي. إذ أن الوظيفة العامة في النظم الحديثة هي وظيفة إداريّة أُفقيّة بحتة، مُنفصلة، نظريًا؛ عن أية قيم أو غائيّات متجاوزة للواقع المادي، وظيفة يضطلع بها تكنوقراط/مهنيين أكفاء (سدانة الدولة/الإله وصيانة مواردها). وأسمى مقامات هذه الوظيفة السياسية هو حُسن إدارة الموارد الاقتصادية وصيانة الإقليم الجغرافي “المقدّس”. أما الوظيفة العامة في التصوّر الإسلامي فوظيفة ترقية أخلاقية ترتبط بغائيّة ربّانيّة أسمى: حراسة حُريّة الإنسان في اختيار دينه، برغم اضطلاع الوجود الإسلامي الكامل بالدعوة إلى الله. وأسمى مقامات هذه الوظيفة “الشرعيّة” ليس مُجرَّد دعم تزكية الأفراد لأنفسهم من خلال مجال عام لا يُعاديهم فحسب، بل توسعة مردود هذه التزكية الفردية و”تضخيم” أثرها اجتماعيًا. وقد يبدو في هذه الثنائيات بعض التناقُضٌ الظاهري، لمن لا يعرف معنى ربوبية الله عز وجل للعالمين جميعًا (مؤمنهم وكافرهم)، وأنه خالقهم الذي منحهم حريّة اختيار معبودهم، وصان هذه الحريّة حتى من قهره سبحانه، وأجّل من ثم حساب المكلّفين إلى يوم آخر.

……

لقد مثّل

التأسيس الثاني

للجماعة، على يد الهضيبي؛ بناءً نوعيًا جديدًا إلى حدٍ كبير. بناء حاول سدّ كثير من ثغرات الاختراق التنظيمي البرّانيّة، بمقولات تأسيسيّة جوّانية، وليس بزيادة مُعدّلات ترشيد البنية التنظيمية. الأمر الذي جعل “الجماعة” أصلب عودًا، إلى حدٍّ ما؛ وأكثر تماسُكًا بعض الشيء في مواجهة محنة 1965 منها في 1954 أو في 1948، وذلك برغم تزايُد ضراوة النظام الناصري، ونضوج خبرته القمعيّة.كان أهم أسباب تجانُس التنظيم إبان تلك المحنة، ومصدر مقولاته التأسيسّيّة؛ هو التصوّر الفكري-الحركي، الذي تجلّى بعضه واضحًا في كتاب سيّد قُطب: “معالم في الطريق”؛ المنشور سنة 1964. صحيح أن التنظيم تحطَّم ثانية تحت وطأة القبضة الناصريّة الغاشمة؛ لكن شظاياه تناثرت هذه المرّة بثقةٍ جوفاء، في طول الأرض وعرضها؛ بما حُمّلت من قشورٍ نظريّة لم تستقر أصولها في النفوس ولم تنعكس حقيقتها على السلوك. تناثرت لتُستنبَت منها أو ضدّها تنظيمات من الغُلاة إفراطًا وتفريطًا، وعلى رأسها جماعة التلمساني الثالثة. كان مشهد الشظايا هذه المرّة مُختلفًا بحق؛ إذ سرعان ما تفرَّقت على غير عادتها مُغتّرة بما حُمِّلت، لتبدو في مجموعها طاوية كثيرًا من الحق، مع بعض الغلو؛ وإن عجزت آحادها عن حمل بعض هذا الحق؛ فغلب على تلك الآحاد التنظيمية غلوّها. ومن هذا المنظور؛ فقد كانت جماعتا البنا والهضيبي أقل غلوًا من جماعة التلمساني، التي عاشت إلى اليوم؛ ومن الجيوب الأخرى التي نبتت على هامشها، لسدّ ثغرات تصوّراتها وهمود حركتها. وبالتالي كانت جماعتا الهضيبي والبنّا أقل استسلامًا من التنظيمات الجديدة للواقع السياسي، الذي أعاد تشكيل تصوّرات جماعات السبعينيات، حتى الراديكاليّة منها؛ وحدد لأكثرها وجهتها ومجال حركتها داخل قفص النظام العالمي ووحداته من الدول القُطرية/القوميّة المسلمة.

……

لم يكُن اختيار الهضيبي مُرشدًا باللغز المُحيِّر على الإطلاق. فمن اختاروه أرادوا له أن يكون واجهة ليتحرّكوا خلفها، وهو ما غلب على أكثر مُرشدي الجماعة بعده؛ لكن الرجل خيَّب ظنون من اختاروه، واكتشفوا فيه مُقاتلًا عنيدًا. كانت الأزمة الداخليّة قد انفجرت قبلها بين فريقين سعى كل منهما للهيمنة على المرشد “الغريب”، لتوجيه زمام الجماعة؛ جهلًا بحقيقة شخصيّته. تمثَّل الفريق الأول في بقايا النظام الخاص الذي اخترقه عبد الناصر، والفريق الثاني جسّدته “أرستقراطيّة” التنظيم التي اختارت الهضيبي وفرضته على الجماعة، نكاية في صالح عشماوي ورغبة في تقليص نفوذ النظام الخاص. وقد لعبت هذه “الأرستقراطية” أيضًا دور مجموعة الاتصال الجديدة مع عبد الناصر، والتي كانت تجهل كل شيء عنه وعن تاريخه السياسي، خصوصًا مع الجماعة؛ ومن ثمّ سهُل على عبد الناصر التلاعُب بهم وتوظيفهم لحسابه، حتى اشتهرت قصّة السلاح الذي دفنه في عزبة العشماوي باشا قبل الانقلاب، واستخرجه وقت الحاجة ليُدينهم بحيازته. لقد كان عبد الناصر يُهيمن فعليًا، وبشكل كامل؛ على الفريقين المتصارعين للسيطرة على الهضيبي وعلى قيادة الجماعة، وهو ما سهُل عليه بسبب السذاجة المفرطة للأطراف المتصارعة، وجهلها ببقية تفاصيل المشهد، ناهيك عن أطماعها الشخصيّة. وحين رجحت كفّة النظام الخاص في أداء مهمّة المنشيّة لحساب عبد الناصر؛ استقرَّ بعض “الأرستقراطية التنظيمية” في المعتقلات وفرّ بعضها اﻵخر إلى شتاتٍ طويل، وقُتلت قيادات النظام الخاص التي انتبهت للاختراق أو رفضت التعاون، بل حتى الذين تعاونوا؛ غُدر بهم ليحملوا السر إلى قبورهم.

لقد كان الهضيبي “صديقًا” للبنّا (منذ عام 1944 تقريبًا) مُحبًا لطريقته، مُعجبًا بإخلاصه، لكنه لم يكُن إخوانيًا بله أن يعرف الكثير عن “منهج” الإخوان وتنظيمهم. ومن ثم ارتأت “الإرستقراطية التنظيمية”، كما أسميها بما لم يسبقني إليه غيري؛ الإتيان به ليسهُل التحكُّم فيه. إذ كانت السيطرة على من كان مثل صالح عشماوي مستحيلة، من وجهة نظرهم؛ وهو من هو في التنظيم. كان اختيار الهضيبي إذن وسيلة لتنحية رجالات الجماعة الكبار، المؤهلين بتاريخهم وقدراتهم لخلافة البنا؛ لحساب هيمنة مجموعة “الأرستقراط”، أو “ملأ” التنظيم: منير الدلة، صالح أبو رقيق، حسن عشماوي، فريد عبدالخالق، صلاح شادي، وآخرون أقل أهميّة. وعلى عكس الرواية المضطربة التي تدّعي وصيّة البنا بأن يخلُفه الهضيبي، والتي تُستخدم غالبًا لتبرير اختيار “الأرستقراطية التنظيمية” لمرشد من خارج التنظيم؛ فيبدو أن نوعًا من التوافُق الضمني، على اختيار الهضيبي؛ قد حدث بين “الأرستقراطية التنظيمية” من ناحية، وبين الحكومة الملكيّة من ناحية أخرى. ولم يكن أي من هؤلاء يعرف شيئًا عن الشخصيّة الحقيقية للقاضي الهاديء المتحفِّظ، وقدراته الكامنة.

وقد كانت محنة 1965 هي الاختبار الحقيقي لقدرات الهضيبي وشخصه، ذلك الاختبار الذي ادُّخِرَ له ما يقرُب من عشرة أعوام، فلم يتم إعدامه عام 1954؛ إذ يبدو أن الفرقاء المتشاكسين (وقبلهم عبد الناصر بطبيعة الحال) لم يفطنوا لبأس المرشد الجديد إلا مُتأخرًا. وحتى حين انتبهوا إلى ذلك؛ كان عبد الناصر قد أدرك خطورة ما يفعله قطب في عام 1965، وأدرك أن المقولات التأسيسية، التي قد تتماسك بها الجماعة من جديد ويتسع تأثيرها في مواجهة الدولة الناصريّة المطلقة؛ هي بنات اجتهاده، ومن ثم ما عاد بالإمكان العفو عنه وتخفيف الحكم عليه. إذ لم يقتصر “جُرم” قطب على المساهمة في إعادة إحياء التنظيم-الدعوة خارج هيكل الدولة الناصريّة المتألهة وفي مواجهة سُلطانها فحسب، بل امتد لمحاولة التنظير لحركته استمدادًا من القرآن. لقد كان قُطب يواجه الدولة بالقرآن الذي تُسيء توظِّيفه لخدمتها من خلال موظفي الأزهر المؤمم، ومن ثم استعدى عليه عبيدها من المعممين المرتزقة، بقدر ما استعدى عليه سدنة النظام السياسي. ويبدو أن عبد الناصر كان يُراهن على الفوضى والتشظّي والبلبلة والتخبُّط الذين تمخَّض عنهم إعدام قطب، في صفوف الإخوان والحركة الإسلاميّة عمومًا؛ قبل ترسُّخ الأساس النظري، الذي طوّره سيّد؛ تربويًا في قاعدة تستطيع التماسُك به نفسيًا واجتماعيًا، ناهيك عن تحُّمله حركيًا؛ وهو ما يتجلّى بوضوح في إبقاءه مُطمئنًا على حياة الهضيبي للمرة الثانية، ليواجه وحده نفس حالة التشظّي مرة أخرى.

لقد بدأت هيمنة عبد الناصر على النظام الخاص عام 1951 بوفاة محمود لبيب، مسئول الضباط في النظام الخاص؛ ونقل الجيش لشريكه عبد المنعم عبد الرؤوف (الذي ضم عبد الناصر للتنظيم) إلى سيناء. وقد استطاع عبد الناصر السيطرة على تنظيم ضباط الجيش بسهولة شديدة، بعد أن سلّمه لبيب كل أوراق التنظيم وهو مُسجّى على فراش الموت؛ فقد كان تنظيمًا هرميًا سريًا لا يتصل بالجماعة إلا عن طريق رأسه. وما أن أزيح لبيب بالوفاة وعبد الرؤوف بالنقل؛ حتى صار عبد الناصر (التالي عليهما في الترتيب) حلقة الوصل الوحيدة بين الجماعة وتنظيم الضباط. وسهُل عليه بعد ذلك فصل التنظيم عن الجماعة، خصوصًا في ظل الجهل التام لحلقة الاتصال “الأرستقراطية” بشخص عبدالناصر و”تنظيمه”، لدرجة نجاحه في استمالتهم وإقناعهم بأن يدعم الإخوان انقلاب 23 يوليو 1952؛ انقلاب تنظيم الضباط (الإخواني!) الذي عُرف تاريخيًا ب”الضباط الأحرار”، وهو الانقلاب الذي دعمه الإخوان المسلمون، لدرجة المشاركة في حماية المنشآت الحيويّة؛ فكان نجاحه ذروة توظيف عبدالناصر للجماعة. وربّما كان أيسر ما في السيطرة على باقي النظام الخاص هو استمالة رأسه الأرعن: عبد الرحمن السندي؛ الذي أودى به تمركُزه الشديد حول ذاته وضيق أفقه. ليدفع عبدالقادر عودة ويوسف طلعت ومحمد فرغلي حيواتهم ثمنًا لنجاح عبد الناصر في خداع السندي، واحتواؤه المؤقت ل”الأرستقراطية التنظيمية”، جنبًا إلى جنب مع بعض خصومهم من دراويش النظام الخاص!