إن الذين يتجاهلون التاريخ، لا يملون من تكراره!

صعود العسكر

انقشع غبار الهجمات الصليبية – في الشام والأندلس -، ومعها الهجوم التتري على العالم الإسلامي مخلفةً ورائها ندوبا غائرة في جسد العالم الإسلامي ومنظوماته الرئيسة؛ فهي لم تكتفي بتدمير معظم الحواضر الإسلامية بمكتباتها ومدارسها النظامية، وتشريد جماعاتها العلمية في الشرق والغرب، بل وأسهمت من غير أن تدري بالتعجيل بدفع المجموعات العسكرية المجتلبة في أواخر العصر العباسي الثاني إلى سدة الحكم في معظم ممالك العالم الإسلامي، لتدشن بذلك حقبة الدويلات العسكرية المحكومة من قبل النخب العسكرية الأعجمية .

ومع بزوغ نجم النخب العسكرية الجديدة أصبح هناك عقد غير مكتوب بينها وبين «جماعة العلماء» في هذه الممالك فهي تكتسب شرعيتها الوليدة من قيامها بالدفاع عن بيضة العالم الإسلامي في وجهة الأخطار العسكرية الخارجية، والاجتهاد في تطبيق الأحكام الشرعية، في مقابل إضفاء الشرعية من قبل «الجماعة العلمية» على الحكم العسكري الجديد.

ولو استعرنا مفهوم السلطة عند فوكو؛ فسنجد أن السلطة السياسية ظاهريا ظلت في يد العسكر العجم، ولكن جماعة العلماء مازلت لديها كثير من أنواع السُلطات الثقافية والقضائية والاجتماعية لتمارسها داخل المجتمع، وعلى النخبة العسكرية الحاكمة نفسها، مما سمح للنخبة العلمية أن تمارس نوع من توازن القوى داخل المجتمع، الأمر الذي سيتغير بشكل تدريجي لصالح سلطة العسكر، على حساب سلطة الجماعة العلمية حتى يؤول في النهاية لصورة كاملة من التبعية – عند التلطف في العبارة!-؛ والتي ستصبح فيها العمائم في قبضة أصغر ضابط في الأجهزة الأمنية للنظم العسكرية.


الجماعات العلمية ما بين التشيع والتسنن

ما كاد القرن الثالث الهجري يشرف على نهايته، إلا وكان الفاطميون الشيعة قد نجحوا في تتويج نشاطهم السري المكثف الذي قام به «تنظيم الدعاة»، وصحب ذلك مد شيعي كبير شهده القرن الرابع الهجري أفقد الخلافة العباسية السنية الكثير من سيطرتها وسطوتها، حتى نستطيع أن نطلق عليه «عصر انتصار الشيعة»: الزيديون في طبرستان واليمن، والقرامطة في جنوب العراق والبحرين والأحساء، ثم سيطرة البويهيون الشيعة على بغداد مركز الخلافة السنية!

وبانتصاف القرن الرابع الهجري وبالتحديد يوم الثلاثاء 17 من شعبان سنة 358 هـ دخلت جيوش المعز لدين الله الفاطمي بقيادة جوهر الصقلي الديار المصرية، ولم يمر عام على هذا التاريخ إلا وقد تم الانتهاء من تدشين المنبر العلمي للمذهب الشيعي الإسماعيلي «جامع القاهرة»، وإن كان بعد مرور قرن من الزمان حل الاسم الجديد محل الاسم القديم وأصبح لا يعرف إلا به «الجامع الأزهر»! .

وما إن تم كسر الوجود الفاطمي على يد صلاح الدين الأيوبي وكسر المنبر الشيعي عن طريق إغلاق الأزهر الشيعي – آن ذاك – حتى بزغ نجم «العسكر المملوكي المصري»، ليعود «الأزهر» إلى المشهد العلمي مدعوما هذه المرة أيضا من العسكر – ولكن العسكر السني هذه المرة! – ليمثل مدرسة من أواخر المدارس «العربية الإسلامية» بعد تجريف معظم الحواضر العلمية في العالم الإسلامي شرقا وغربا، فالأزهر لم تصبح له هذه المكانة لشيء تفرد به من دون سائر الحواضر العلمية في العالم الإسلامي في ذاته؛ ولكن لأنه أصبح بمثابة المحطة الأخيرة لكثير من شيوخ العالم الإسلامي، سواء من الممالك الآسيوية، أو علماء الأندلس الفارين؛ فقد قام الأزهر مقام الجامات العلمية الإسلامية في بغداد وقرطبة وغرناطة، بعد أن سقطت بغداد بيد التتر، وسقطت قرطبة وغرناطة بيد الإسبان، فذاع صيته في العلوم، وقصده فحول العلماء من سائر الأقطار للتدريس فيه، كفيلسوف المؤرخين ابن خلدون وغيره .

وصدق الأستاذ محمود شاكر في وزنه للأزهر بميزان الإنصاف بعيدا عن النعرة القومية القطرية، أو التسفيه العلماني حيث يقول:

وجل تاريخ الأزهر هوأي الأزهركالتاريخ الإسلامي والعربي كله مجهول متروك لم تنفض عنه الحياة المعاصرة غبار السنين المتقادمة والأجيال المتطاولة التي تعاقبت عليه بالنسيان والإهمال والهجر. وإذا نظرنا إلى الأزهر على مقتضى هذه النظرة وبسبب من هذا الرأي





علمنا أنه كهذا التاريخ الإسلامي قد تعاورته القوة والضعف، وحزت فيه سيما العلم وميسم الجهل!، وتغلغل فيه النبوغ الفذ السامي والنبوغ الشاذ النازل : النوبغ السامي الذي ارتفع بروحانية الشعوب الإسلامية وأخرجها من سلطان الشهوات والجهالات، فمدت بذلك سلطانها على جزء عظيم من العالم، والنبوغ النازل الذي هوى بروحانية هذه الشعوب إلى الجدل والفرقة والمذاهب والآراء الخاضعة لسلطان الشهوات العقلية المريضة تارة، ولسلطان العسكرية الجبرية تارة أخرى!


بداية تدجين الأزهر

ولم يكن شيوخ الأزهر استثناءً عن هذه الصورة التي ذكرنها آنفا؛ لعلاقة «النخبة العسكرية الحاكمة» والجماعات العلمية في ممالك الإسلام في علاقتهم بالمماليك بعض استيلائهم على مقاليد الحكم في مصر، والتي ستظل هي المعادلة الرئيسة الحاكمة للمشهد الأزهري/العسكري حتى وصول محمد على إلى سدة الحكم على جثث النخبة المملوكية، والذي قام بتغيير توازن المعادلة «الأزهرية/العسكرية» لصالح السلطة السياسية العسكرية بإنهائه الاستقلال الاقتصادي لطبقة العلماء؛ وذلك باستيلائه على منظومة الوقف وتأميمها لصالح الحاكم العسكري، وتحويل طبقة العلماء لمجرد موظفين تابعين «للعسكري»، مع خلق نخبة جديدة من الخبراء الإداريين وتصعيدهم داخل أروقة الدولة الناشئة لتصبح المعادلة الجديدة «العسكر / الموظف (الخبير العلماني )/ الأزهر» هي المعادلة الحاكمة حتى مجيء الاستعمار الإنجليزي .


علمنة الأزهر

قبل مجيء الاحتلال الإنجليزي كانت المعادلة السابقة قد طرأ عليها بعض التغييرات فالحاكم (وريث الحاكم العسكري القديم) أصبح خديوي مدني تم ترويضه من قبل قوى الاستعمار العالمي عن طريق الإخضاع المالي والاستدانة، وتحول الجيش إلى جيش وطني له تطلعات لإزاحة الخديوى عن المشهد أو تحييد صلاحياته لصالح الجيش ومجلس للنواب متحالفا مع ظهير شرعي أزهري – ناقم على الصورة التي وصل إليها الأزهر – متمثل في الشيخ محمد عبده وعدد من الشيوخ الأزهريين.

على وجه اليقين قبل مجيء الإنجليز كان قد مر على الأزهر بعد تأميمه وتأميم موارده المالية لصالح الحاكم العسكري ولصالح أبناء هذا الحاكم وأحفاده من بعده، تغيرات حادة وهائلة، سواء في حجم دوره بالنسبة لصانع القرار السياسي أو لنظرته هو لنفسه، أو في قدرته على اتخاذ موقف شرعي بعيد عن كونه «موظف» لدي الحاكم ولكن بوصفه يمثل الجماعة العلمية في مصر، ولكن الأحداث ستبرز تباعا ما أصابه من تدمير في بنيته العلمية وأصاب قدرته على المقاومة!

فعلى الرغم من وجود الصوت الأزهري النشاز – عن الاتجاه الأزهري العام – المتمثل في محمد عبده، والشيخ عليش والشيخ حسن العدوي والشيخ الخلفاوي الذي دعم حركة أحمد عرابي في مقاومة الاستبداد الداخلي، ومقاومة محاولة الاستعمار الخارجي، إلا أن موقف رأس المؤسسة الأزهرية – شيخ الأزهر الشيخ الإنبابي الذي عينه العرابيون! – كان بعدم المشاركة في الاجتماع الذي عقده العرابيون والمشايخ في الإنكار على الخديوي توفيق لاستدعاءه للجيش الإنجليزي وطلبه التدخل لحفظ الأمن ومنع الفوضى!

و بذلك دخل الأزهر حقبة الاحتلال الإنجليزي ليصير مؤسسة من مؤسسات الدولة الخاضعة لحكم الكافر الأصلي المرحب به من قبل الخديوي المسلم!

الأثر الأخطر على الإطلاق لعملية التحول إلى نموذج الدولة القومية الحديثة على المؤسسة الأزهرية، هو ابتداءً تحولها إلى مؤسسة!؛ حيث كانت في القديم تمثل مدرسة أو جامعة ملك للأمة، وقائمة على حماية دين الأمة وعلومها، ثم تحولت إلى أحد المؤسسات الملحقة بهيكل الدولة العلمانية الجديدة، وأحد أدوات قوتها الناعمة، وثانيا هو تغير بنية النسيج الاجتماعي والاقتصادي، الذي حرم هذه المدرسة العلمية من روادها الحقيقيين، أو من معظم روادها الحقيقيين، والذي تم الدفع بهم إلى ذروة السلم التعليمي في المجتمع العلماني الجديد؛ الكليات العلمية والفنية من جهة، والكليات الأمنية والعسكرية من جهة، حيث أصبح معظم الجمهور المقبل على الدراسة الشرعية هم الطبقات المهمشة اجتماعيا، والمحملين بجميع الأمراض النفسية والخلقية لهذه الطبقات، والأفراد ذوي القدرات العقلية المتدنية غير القادرين على الالتحاق بالدراسة العامة (غير الشرعية)، هذا الخليط المشبع بالرواسب النفسية، والتدني المالي والطبقي، والبلادة الذهنية أصبح السواد الأعظم من المنتج الذي تدفع به هذه المدرسة إلى المؤسسة الأمنية حتى يعيد تسكينه في مكانة الصحيح والمناسب داخل هيكل السلطة الأمنية!، الظاهرة التي نرها الآن بشكل فج، والتي يمكن وصفها بظاهرة «الشيوخ العسكر!»؛ والذين يدورون مع العسكر حيث دار!، وهم في رأيي لا يمثلون نموذج الشيخ الفاسد، ولكن يمثلون إفساد نموذج الشيخ!، فكما قال أهل العلم؛ والله ما خان أمين قط!، ولكن اؤتمن غير أمين فخان!


الإسلاميون والأزهر

مع سقوط السلطنة العثمانية وتحول مصر إلى دولة تحاول الحصول على استقلالها أصبحت المعادلة الداخلية معقدة بعض الشيء فلدينا الملك الصوري المتماهي مع المستعمر، والنخبة السياسية العلمانية الوطنية التي نشأت تحت الاستعمار والتي تنادي بالاستقلال ولكن مقطوعة الجذور عن هوية الأمة الإسلامية، والأزهر المؤسسة والذي صار جزء لا يتجزء من مؤسسات الدولة المستعمَرة!؛ الأمر الذي قد يخرج منه عدد لا بأس منه من الأزهريين كأفراد، سواء كانوا من المشايخ أو طلاب العلم، ولكن الكلام مداره على الأزهر المؤسسة والجامعة بعد ذلك، ثم بقية المعادلة متمثلة في النخبة المتشرعة غير الأزهرية المتمثلة في أبناء دار العلوم والتي سيخرج منهم بعد قليل الأب الروحي لما سيعرف بعد ذلك بـ «الإسلاميين»!

يمثل الشيخ حسن البنا أو إذا تحرينا الدقة «نصف الشيخ / نصف الأفندي» الإسلامي الأول إن جاز التعبير!

فهو ليس شيخا أزهريا ولكنه تلقى تعليم «شبه أزهري» بكلية دار العلوم، وهو في نفس الوقت مدرس بوزارة المعارف أحد مؤسسات الدولة الخاضعة للاستعمار، والذي سيقوم بتدشين جمعية الإخوان المسلمين، بجانب الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة المحمدية بعد ذلك في محاول لتشكيل ظاهرة الكيانات الإسلامية المستقلة عن الأزهر، وكأنها محاولة لتعويض الدور الذي تم تأميمه من الأزهر من قبل الحاكم .

صُلب هذا الدور الذي أصبح هناك شبه وعي جمعي بفقدانه هو غياب الأزهر رأسا لحربة المقاومة للاستبداد الداخلي، ودرعا للأمة في مقاومة المستعمر الكافر، وقائما على الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع تعليما ودعوة، والذي ستسعى جميع الكيانات الناشئة للقيام بجزء من هذا الدور المفقود كلٍ بطريقته ومنهجه!


الأزهر والإسلاميون والعسكر!



ظاهرة «الشيوخ العسكر!»؛ الذين يدورون مع العسكر حيث دار!، لا يمثلون نموذج الشيخ الفاسد، ولكن يمثلون إفساد نموذج الشيخ

بعودة العسكر مرة أخرى إلى سدة الحكم في مصر بعد انقلاب 23 يوليو تتغير المعادلة الحاكم في مصر لتصبح:



أصبحت معادلة «الأزهر/ الإسلاميون/العسكر» محكومة برغبة العسكر وموقفهم من الإسلامين، فعند تحسن هذه العلاقة تتحسن علاقة الأزهر بالإسلاميين

النخبة العسكرية الوطنية المتمثلة في قيادات الانقلاب، والنخبة الإدارية العلمانية المؤمنة بالمشروع القومي العروبي، والإسلاميون الممثلون في جماعة الإخوان المسلمين، والأزهر المؤسسة التي يتم إصلاحها! على يد العسكر! عن طريق تحويلها إلى جامعة نصف علمانية، نصف أزهرية، لتكون أحد أدوات «القوى الناعمة» للدولة صاحبة المشروع القومي العربي الراغب في التوسع داخل المجال الإفريقي والآسيوي الإسلامي غير العربي .

و لكن علاقة «الأزهر / الإسلاميون / العسكر» تطورت عن ذي قبل بشكل ملموس! فنجد أن ممثل الفاعلية الشعبية الاجتماعية والسياسية في معظم معارك الارتطام بالقوى الاستعمارية منذ حرب 48 ضد الصهاينة، وكذلك معارك استعادة الوعي، هم الإسلاميون، وكأن المعركة أصبحت معركة «الإسلاميين» بامتياز، مع بقاء الأزهر كظهير داعم لتيار الإسلاميين، الأمر الذي تغير بشكل دارمي بعد بداية الصدام بين عسكر انقلاب يوليو والإخوان المسلمين في العهد الناصري، حيث نجد أن الأزهر يدخل المعركة كـ «ظهير ديني» للعسكر في معركته ضد الإسلاميين ممثلين في الإخوان المسلمين، تمثل ذلك في بيان شيخ الأزهر عبد الرّحمنِ تاج الّذي اعتبر الإخوان كالخوارجِ! لا يُقبلُ في أمرهم توبة ولا شفاعة! والذي نشر أيضا بالأهرام! بتاريخ ١٧ نوفمبر/تشرين الأول ١٩٥٤م .

و منذ هذا التاريخ أصبحت معادلة «الأزهر / الإسلاميون / العسكر» محكومة برغبة العسكر! وموقفهم – أي العسكر- من الإسلامين، فعند تحسن هذه العلاقة والوصول إلى اتفاق مرحلي مؤقت، تتحسن علاقة الأزهر بالإسلاميين، ولا يتم الهجوم أو التنكيل على/بـ الأزهريين المنتمين إلى الإسلاميين، بل ويمكن أن يتم تصعيدهم داخل المؤسسة، هذه العلاقة سريعا ما تنقلب بتغير العلاقة بين العسكر والإسلاميين، فيتم استدعاء الحليف الشرعي الرسمي – الموظف! -، إلى المعركة بجانب رئيسه في المؤسسة – الدولة – ، ضد أعداء رئيسه ولكن متسلحا بأدواته الشرعية وفتاواه وعمامته العسكرية!!

الظاهرة الأكثر إرباكا للمشهد هي ظاهرة «الأزهريين /الإسلاميين!» أمثال الشيخ الباقوري الإخواني سابقا، والذي قبل منصبا وزاري في دولة عبد الناصر، والشيخ سيد سابق، والشيخ محمد الغزالي والذي عمل مراقبا من قبل الدولة ومراجعا لتفسير في ظلال القرآن الكريم لسيد قطب، حتى يحدد ما ينبغي أن ينشر، وما لا ينبغي!، والشيخ عمر عبد الرحمن مفتى تنظيم الجماعة الإسلامية، والشيخ صلاح أبو إسماعيل وغيرهم، فهم أزهريون بالنسب إسلاميون على الحقيقة! فإما أن يتم إدماجهم – تدجينهم – داخل هيكل الدولة، ومن ثم يتم إخراجهم من ويلات معركة الإسلاميين والعسكر، أو يتم التعامل معهم على أنهم خارجون على المسار الأزهري الرسمي! ومن ثم إخراجهم أو طردهم من الفردوس الأزهري! وتجريدهم من وصف العلمية والمشيخية! ونقلهم إلى خانة الخوارج أعداء الدولة! أو أعداء رئيسهم في العمل على الأقل!